لمـاذا صـرتُ مَسيحيّـاً ؟ سلطان محمد بولس
حياتى الأولى ودراسـاتى : بلدى الأصليّة أفغانستان. وكان والدى رحمه الله يقيم فى عاصمة لوجار التى تبعد ٧٥ كيلومتراً من مدينة كابول. وكان والدى "بايانداخان" يشغل وظيفة لواء فى الجيش الأفغانى، وكان معروفاً فى بلدنا باسم "اللواء باهادور خان" وكان متزوجاً من زوجتين، أولاهما من قريباته، ولدت له ثلاث بنات ولم تلد له ولداً. لذلك تزوّج ابنة السيد "محمد أقا" من أكثر العائلات النبيلة والمشهورة فى أفغانستان لينجب ابناً ذكراً وكنت أنا وشقيقى" تاج محمد خان" ثمرة هذا الزواج. ولقد وُلدت سنة ١٨٨١م. وبعد وصول الأمير عبد الرحمن خان من روسيا ليتولى عرش كابول، ألقى القبض على ستة رجال من قادة بلادنا وأرسلهم إلى جهة غير معروفة، ثم قتلهم بعد ذلك. وكان والدى أحد هؤلاء الستة. فكانت تلك كارثة حلّت بنا، سرعان ما تبعتها كارثة أخرى، فقد ألقى القبض على إثنين من أخوالى سُجنا فى كابول، ثم اُستبعدا إلى الهند. وبعد ذلك سمح الأمير لخالى الثالث أن يترك البلاد مع أمه وخَدَمه ليسافروا الى الهند. بينما بقيت بقيّة العائلة فى كابول. وعندما وصلوا إلى الهند استقروا فى "حسن عبدل". وواجهت بقية العائلة فى كابول مصاعب سياسيّة، فانتقلت كلها لتقيم فى "حسن عبدل". وهناك ماتت أمّى. بعد ذلك تمّ الصلح بين عائلتى والأمير عبد الرحمن خان، فرجعنا كلّنا إلى بلدنا الأصليّة. سافرت بعد ذلك إلى "دلهى" ودخلت مدرسة إسلاميّة لأتقن اللغة العربيّة، وكان رئيس المدرسة مولانا عبد الجليل، وهو باتهانى (أفغانى مقيم بالهند)، والثانى كان مولانا فاتح محمد خان من قندهار. وبمساعدة هذين السيّدين الكريمين أكملت دراسة علم الكلام، ثم أقبلت على دراسة الأحاديث والتفاسير. وكنت أثناء النهار أدرس مع زملائى، وفى الأمسيات أتلقّى دراسات خاصّة على يدىّ السيّد عبد الجليل. وبفضلٍ من الله امتلكت ناصية العلوم التى كنت أود أن أدرسها. المواجهة الأولى مع المسيحيّين: وذات يوم فى طريق عودتى مع بعض أصدقائى من نزهة، مررت بجماعة كبيرة من الناس مجتمعة على بُعد قريب من مدرستنا. وعندما اقتربت منهم سمعت حواراً يدور عن عقيدة التثليث بين واعظ مسيحى وبعض تلاميذ مدرستنا. وكان الواعظ يحاول أن يبرهن عقيدته فى الثالوث من قول القرآن "ونحن أقرب إليه من حبل الوريد" (ق١٦) فقال: إن كلمة "نحن" بصيغة الجمع تدلّ على أنّ وحدانيّة الله وحدانية مركبة، لا وحدانيّة بسيطة. فلو كانت وحدانيّة الله بسيطة لقال "أنا". ولم يقدر تلاميذ مدرستنا أن يجاوبوه. فطلب أصدقائى منى أن أردّ، فتدخلت وقلت: "إن كلمة نحن بصيغة الجمع تدل على الجلال والعظمة".وكانت تلك أوّل فرصة لى ألتقى فيها مع مسيحى فى دائرة الجدال والمناظرة. وتولدت داخلى فى ذلك اليوم رغبة فى مجادلة المسيحيين. وبدأت أجمع الكتب التى تهاجم المسيحية ودرستها بدقة. ثم أخذت أذهب فى أيام معيّنة إلى مكان الحوار لمناقشة الوعّاظ المسيحيّين. وذات يوم أعطانى أحد الوعاظ عنوانه وطلب منّى أن أزوره فى بيته مع أى عدد من أصدقائى، فاصطحبت ثلاثة منهم وذهبت إلى بيته، فكان صدوقاً ولطيفاً. وأثناء احتساء الشاى دارت بيننا مناقشة جذابة حول الدين. فسألنى: "هل قرأت الكتاب المقدس؟" فجاوبته: "لماذا أقرأ كتاباً تحرّف.. ولا زلتم تغيّرون فيه كل سنة؟!.. "فظهرت على وجه القسيس علامات أسى وقال بابتسامة باهتة: "هل تظن أن كل المَسيحيّين خوَنة؟!.. هل تظن أن مخافة الله ناقصة عندنا حتى أننا نخدع العالم بتغيير كتابنا المقدس؟!.. إنّ المُسلمين وهم يتهمون المَسيحيّين بتحريف كتابهم إنما يتهمونهم بعدم الأمانة والخداع، وهذه اتهامات شنيعة!.. إنّ المَسيحيّين يؤمنون أنّ الكتاب المقدس هو كلمة الله، كما يؤمن المسلمون بالقرآن. فإن لم يكن هناك مُسلم يغيّر كتابه بسبب حبه له، فهل تظن أن المسيحيّين يغيّرون الكتاب الذى أعطاه لهم الله كلّى الحكمة؟!.. ولو افترضنا أن مسلماً مخادعاً جرؤ على أن يغيّر آية من القرآن، ألا تظن أن سائر المُسلمين يلومونه ويفضحون فعلته الشنيعة؟!.. هذا ما سيفعله بقية المَسيحيّين الذين يحبون كتابهم من كل قلبهم لو أن أحداً تجرأ أن يُجرى فيه تغييراً. وأؤكد لك أن كل مَسيحىّ يحبّ كتابَه سيهُبّّ للدفاع عنه وفَضْح الذى يريد أن يغيّره. ومن هذا ترى أن اتهام المُسلمين للمسيحيّين بأنهم غيّروا كتابهم اتهام لا يقومُ على دليل. وأعتقد أن المُسلمين الذين يتهموننا بتغيير كتابنا المقدس يجهلون كتابنا كما يجهلون إيماننا وعقائدنا". ثم قدّم لى القسيس نسختين من الكتاب المقدس، إحداهما باللغة الفارسية والأخرى باللغة العربية، وطلب منى أن أقرأهما. فشكرناه وخرجنا من بيته. ولم أعر ما قاله القسيس التفاتاً، ولا فتحت أيّاً من الكتابين اللذين أعطاهما لى، فقد كانت كل رغبتى قراءة أجزاء معيّنة فقط من الكتاب المقدس بهدف اكتشاف الأخطاء التى أشار إليها أصحاب الكتب التى تهاجم الكتاب المقدس. ولم أجد عندى حاجة لأقرأه كله، وصرفت مدة إقامتى فى دلهى أجادل المسيحيين وأهاجمهم. دراسـات أعمـق : واستقر عزمى على أن أسافر إلى بومباى، حيث كان لى حظ مقابلة مولانا هدايات الله. وكان محترماً فى كل المنطقة كرجل متفقّه فى علوم الدين بدرجة عظيمة. وكان أصلاّ من كابول ويعرف عائلتى. وعندما عرفنى وعد أن يقدم لى كل معونة ممكنة، ونصحنى أن أدرس الأدب، وسمح لى أن استخدم مكتبته العظيمة، فبدأت أدرس تحت إرشاده. وكان قد تعلم فى القسطنطينيّة والقاهرة والجزيرة العربية، وكان عظيم المعرفة وأعطانى دروساً فى الفارسية. وجاء فى ذلك الوقت أستاذ عظيم وعالم جليل فى الفلسفة والمنطق من مصر، هو مولانا عبد الأحد، وهو أصلاً من منطقة جلال أباد فى أفغانستان. والتحقت بالمدرسة التى يدرّس فيها، وتلقّيت العلم على يديه، ولقد عاملنى كابن له وأعطانى غرفة قريبة من غرفته لأكون قريباً منه، فأحصل على نصائحة وتعاليمه فى أى وقت أشاء. مزيد من الجدل مع المسيحيين : ذات يوم كنت أتمشى مع بعض أصدقائى الطلاب عندما وجدت بعض الوعاظ المسيحيين يخاطبون الناس، فتذكرت ما حدث معى فى دلهى واتجهت بعزم نحوهم فشدّنى أحد زملائى وقال لى: "لا تلق انتباهاً لمثل هؤلاء الناس ولا تضيّع الوقت وأنت تجادلهم. إن كل ما يدفعهم إلى عملهم هو الأجر الذى يتقاضونه. فلا فائدة من الحوار معهم". فأجبته: أعرف أن هؤلاء الناس قد لا يعرفون أسلوب الجدل، لكنهم يعرفون كيف يضللون الناس. ومن واجبنا نحن المسلمين الصادقين أن ننقذ إخوتنا المسلمين البسطاء من مكرهم وخداعهم. واتجهت فوراً نحوهم، وأثرتُ مجموعة نقاط هجوماً على المسيحية، فأجابونى بكثير من التوضيح. واضطررنا أن نوقف الجدل بسبب ضيق الوقت وانتشر خبر حوارى مع القسيس بين طلبة المدرسة، فامتلأوا بالغيرة والحماسة، وأقبلوا على الجدال. فكنا نذهب مرتين أسبوعياً لنجادل المسيحيين. وقال لنا أحد القسوس إن المكان الذى نلتقى فيه للحوار بعيد علينا، واقترح أن يستأجر غرفة قريبة من المدرسة تكون مكان لقاء وحوار يستمر. فقبلتُ هذاالعَرْض، وكنا نلتقى معه فى تلك الغرفة فى أوقات يحددها من قبل. ولما وجدت أن زملائى التلاميذ لا يعرفون الديانة المسيحية، وغيرمختبرين فى فن الحوار، نصحنى مولانا "عباس خان صاحب" أن أستأجر بيتاً نتحاور فيه، ففعلت ذلك، وكوّنتُ جماعة "ندوة المتكلمين" وكان هدفنا أن ندرّب الدعاة الإسلاميّين ليحاوروا المسيحيّين ويخرسونهم. ولما وجد أستاذى أن كل اهتمامى موجّه للجدال والمناظرة، جاء إلى غرفتى بعد صلاة المغرب فوجدنى أقرأ الإنجيل. فقال بغضب: "أخشى أن تصبح مسيحياً". فضايقنى تعليقه، ولم أشأ أن أسِىءَ إليه، ولكنى وجدت نفسى أقول له: "هل يمكن أن شخصاً مثلى يجادل المسيحيّين كل هذا الجدل ويصبح مسيحيّاً؟!.. وهل قراءة الإنجيل تصيّر الإنسان مسيحيّاً؟!.. إننى أدرسه لأدمّر المسيحيّة من أساسها. كنت أظنّك تشجعنى على أن أجد الأخطاء فى هذا الكتاب". فقال: "إننى أقول لك هذا لأننى سمعت أن الذى يقرأ الإنجيل يصبح مسيحيّا. ألم تسمع الكلمة الحكيمة من شاعرنا الذى قال: "الذى يقرأ الإنجيل يتحوّل قلبه عن الإسلام؟" فقلت له: "هذه معلومة خاطئة". ولمّا لمْ أقبلْ نصحَه تركنى ومضى. الحـجّ إلى مكّـة : استمر جدلى مع المسيحيين عدة سنوات، ثم خطر لى خاطر ألحّ علىّ.. أنْ أحِجّ إلى مكة. فجهزت نفسى وسافرت إلى هناك. ومن مكة كتبتُ رسائلَ إلى مولانا حسام الدين محرر مجلة "كشف الحقائق". وفى يوم الحج لبست ملابس الأحرام وسرت نحو عرفات. وفى ذلك اليوم رأيتُ منظراً رائعاً.. رأيتُ الفقراء والأغنياء، العال والدون، جميعاً يلبسون الزىّ الأبيض نفسه، وكأن موتى القبور قد بُعثوا من قبورهم ليقدّموا حساباً عن عملهم. وسالتْ الدموع من عينىّ. ولكن طرأ خاطر قوى على فكرى: لو أن الإسلام لم يكن الدين الصحيح، فماذا تكون حالتى فى اليوم الآخر؟!.. فدعوت الله: "اللهم أرنى الحق حقاً وارزقنى اتّباعه، وأرنى الباطل باطلاً وارزقنى اجتنابه. يا مُثبت القلوب ثبت قلبى على الإسلام إن كان حقاً وصدقاً، ولا تُزلّ قدمى بعد ثبوتها. وإن كان باطلاً فاصرفنى عنه. إلهى هذا قلبى بين يديك خالصاً لوجهك الكريم، فوفقْه لما تحبّه وترضاه. إنك نعم المولى ونعم المجيب". وبعد زيارة قصيرة للمدينة رجعت إلى بومباى. وأثناءَ غيابى توقفتْ "ندوة المتكلمين". فأسستُ جماعة أخرى اختارونى رئيساً لها، كما اختاروا عبد الرؤوف ليكون سكرتيراً فكنا نجتمع قريباً من منزله. ورتبنا أن ندعو أسبوعياً شخصاً غيرَ مسلم ليخاطبنا ثم يجاوب واحد منا على ما أثاره الضيف المسيحى. واعتاد رجل الدين المسيحى مونشى منصور مسيح أن يجىء إلينا بانتظام . موضـوع أساسى : وذات يوم كلّمنا مونشى منصور مسيح عن أن الإسلام لا يقدم طريقاً للخلاص. وطلب أعضاء جمعيتنا منى أن أردّ عليه، فحاولت بكل طاقتى أن أبرهن أن فى الإسلام طريقاً أكيداً للخلاص. وفرح الحاضرون بكلامى، ولكننى علمت فى أعماقى أن ما قلته ليس مقنعاً. وأثناء حديثى كنت أحس أن ما أقوله ضعيف بالرغم من أن صوتى كان أعلى من صوت مناظرى!.. غير أن صوت مناظرى الرقيق كان يرنّ كالرعد فى أعماق نفسى بقوة غير عادية وانتهت المناقشة فى الحادية عشرة قبل منتصف الليل. فعدت إلى بيتى أفكر فيما قاله مونشى منصور مسيح. وكلما فكرت أدركت أن خلاص النفس من براثن الخطية هو أهم هدف لأى دين، بل هو الأساس الحقيقى للدين، وبدونه لا يكون ديناً قيّماّ. ولقد تذكرت أن كل الأديان تعلّم أن الإنسان ظلوم كفـّار، جاحد، نفسه أمّارة بالسوء. ولن تجد إنساناً يعيش حياة طاهرة دون أن تلطخها الخطية، فالخطية هى الطبيعة الثانية للإنسان حتى أننا نقول: إن الخطأ شيمة البشر. والسؤال الأساسى هو: كيف ننجو من عقوبة خطايانا؟!.. كيف نجد خلاص نفوسنا؟.. ماذا يقول الإسلام لنا؟.. وما هى رسالة المسيحية فى هذا الموضوع؟.. ولقد وجدت أن من واجبى الأول هو دراسة وبحث هذا الموضوع الهام وبكل أمانة ومن غير تحيّز. فإذا وجدت أن الخلاص فى الإسلام شكرت الله على ذلك، وكم ستكون حالتى سعيدة! وإن لم أجد الخلاص فى الإسلام، فعلىّ أن أفتش على خطة الله للخلاص الذى يمكن أن يشبع قلبى. وعندما وصلت إلى هذا القرار ركعت على ركبتىّ فى دعاء إلى الله وانا أبكى قائلا: "لن أقرأ الكتاب المقدس كما سبق لى أن قرأت، لكننى سأقرأه كخاطئ عاجز، يحاول أن يجد طريق الخلاص". رغبتى فى الخـلاص : منذ ذلك اليوم تبدّل موقفى وصرت باحثاً مخلصاً وراء الحق، فبدأت أدرس الكتاب المقدس والقرآن دراسة مقارنة. ولأُرضى ضميرى أخذت نسخة من كتاب "الأفستا" من صديق فارسى، كما اشتريتُ نسخة من ساتيارث براكاش، وبدأت أقارن كل هذه الكتب معاً. بعد قراءة "الأفستا" بعناية تحدثت مع علماء فارسيين، ولكنى لم أجد عندهم طريقاً معقولاً محدداً للخلاص. فاتجهت بعد ذلك لدراسة "الساتيارث براكاش" كما كتبها "سوامى داياناي سارسناتى" الذى يُعتبر المرجع الأساسي لعقائد "أريا ساماج" وفتشت على ضالتى المنشودة. ولكننى وجدت عقائد غريبة أوقفت شعر رأسى، إذ وجدت أن الله لا يمكن أن يغفر الخطيّة. واستغربت كيف ينضم الناس إلى "الأريا ساماج" بينما لا تقدم لهم أى أمل للخلاص، فتعاليم أريا ساماج تقول إن الله لا يمكن أن يغفر خطايا الإنسان التى ارتكبها قبل اعتناقه الأريا ساماج ولا بعد ذلك، ولا مفرّ من العقوبة. كما أننى اكتشفت أن الأريا ساماج تعتبر الخلاص أمراً مؤقتاً لا يمكن أن يضمنه الإنسان. ولما كان الخلاص مؤقتاً فإن الإنسان يعيش فى خوف مستمر من رفض الإله له. إذاً ليس عندهم خلاص لشخص مثلى. فتوقفت عن دراسة "الساتيارث". وكانت أثقل مسئولية تعرضت لها أن أدرس القرآن والحديث لأجد طريق الخلاص. ورفعت يدىّ إلى الله فى دعاء: "اللهم، إنك تعلم أنى بك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، فاغفر لى وارحمنى يا أرحم الراحمين، وأنر قلبى بنورك الذى لا ينطفئ، واهدنى صراطك المستقيم. اللهم إن أحييتنى فأحينى وأنت راضٍ عنى، وإن توفيتنى فأغفر لى فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت". ولم أجد فى دراستى للقرآن جديداً، لأنى درسته من قبل دراسة وافية، وعرفت أن الحصول على الخلاص متوقف على العمل الصالح الذى يؤديه الإنسان. ووجدت عدة آيات تعلن هذه الفكرة، أقتبس للقارئ أربع آيات منها: "أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنّات المأوى نُزُلاً بما كانوا يعملون. وأما الذين فسقوا فمأواهم النار. كلما أرادوا أن يخرجوا منها أُعيدوا فيها، وقيل لهم: ذوقوا عذاب النار الذى كنتم به تكذّبون" (السجدة٢٠،١٩). "فمن يعمل مثقال ذرّة خيراً يَرَه، ومَنْ يعمل مثقال ذرّة شراً يَرَه" (الزلزلة ٨،٧). وعندما نلقى النظرة الأولى على هذه الأ يات نكتشف أنها جميلة ومشجعة، ولكنها أثارت داخلى سؤالاً: هل يمكن أن يعمل الإنسان الخير دون الشر؟ وعندما فكرت فى شهوات الإنسان ورغباته اتضح لى أنه من المستحيل أن يعمل الإنسان الخير وحده، ولا يمكن أن يكون عمله دائماً عملاً صالحاً فقط. ولقد قال رجال الفلسفة العرب إن هناك أربع ملكات عقلية للإنسان وراء كل أفعاله، ثلاث منها تقوم ضد صالح الإنسان الدينى، وواحدة فقط "هى القدرة الملائكية" التى توجّه الإنسان نحو الله وتعاونه على طاعة أوامره. ولو أن تأثير هذه مخفىّ عن عين الإنسان. أما الثلاثة الأخرى التى تقاوم اتجاه الإنسان إلى الله فهى واضحة، ويسعد الإنسان بها. ولما كان الإنسان لا يرى إلا ما يطفو على السطح، ولا يهتم إلا بالحاضر، ويوجّه انتباهه إلى الأمور الأرضية أكثر من اهتمامه بالأمور الدينية، فقد كتب أحد المسلمين البارزين يقول: "إننى واقع فى شَرَك أربعة أشياء تسبّب سيطرتُها علىّ كل بؤسى وآلامى، هى: الشيطان والعالم والشهوة والجشع. فكيف أحرر نفسى منها، وكلها عدوّتى؟ إن الشهوات الشريرة تدمّرنى وتلقينى فى ظلمة يأس من الحسّيَات والملذات". أما الملكات العقلية الثلاث السيئة فقد سيطرت على الملائكة وعلى آدم حتى وقتنا الحاضر كما يقول الحديث التالى: "روى عن أبى هريرة قال محمد: لما خلق الله سبحانه وتعالى آدم مسح ظهره، فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة، وجعل بين عينى كل إنسان وبيصاً من نور. ثم عرضهم على آدم، فقال آدم: أى رب، من هؤلاء؟ قال: هؤلاء ذريتك. فرأى رجلاً منهم فأعجبه وبيص ما بين عينيه. فقال: يا رب، من هذا؟ قال داود. قال: كم جعلت عمره؟ قال: ستين سنة. قال: يا رب زدْه من عمرى أربعين سنة. قال محمد: فلما انقضى عمر آدم إلا أربعين جاءه ملك الموت، فقال آدم: أوَلم يَبْقَ من عمرى أربعون سنة؟ قال: أوَلم تعطها ابنك داود؟ فجحد آدم فجحدت ذريته، ونسى آدم فأكل من الشجرة فنسيت ذريته" (أخرجه الترمذى وغيره). ومن هذا الحديث نرى بوضوح أن كل أبناء آدم خطاة، لأن خطية آدم دخلتهم جميعاً بمن فيهم الأولياء والأتقياء. وهكذا اعترف آدم وحواء: "قالا: ربنا ظلمنا أنفسنا، وإن لم تغفر لنا وترحمنا ولنكوننّ من الخاسرين" (الأعراف ٢٣). ويقول النبى إبراهيم: "ربنا أغفر لى ولوالدىّ وللمؤمنين يوم يقوم الحساب" (إبراهيم٤١). وعن أبى هريرة، قال: كان رسول الله (صلعم) يسكت بين التكبير وبين القراءة إسكاتة. فقلت: بأبى أنت وأمى يا رسول الله! إسكاتك بين التكبير وبين القراءة ما تقول؟ قال: "أقول: اللهم باعد بينى وبين خطاياى كما باعدتَ بين المشرق والمغرب. اللهم نقّنى من الخطايا كما ينقّى الثوب الأبيض من الدنس. اللهم اغسل خطاياى بالماء والثلج والبرد" متفق عليه (مشكاة المصابيح تحقيق الألبانى حديث ٨١٢). وعن أبى موسى الأشعرى، عن النبى صلعم: أنه كان يدعو بهذا الدعاء: "اللهم اغفر لى خطيئتى، وجهلى، وإسرافى فى أمرى، وما أنت أعلم به منى. اللهم أغفر لى جدّى وهزلى، وخطئى وعمدى، وكل ذلك عندى. اللهم أغفر لى ما قدمتُ وما أخرتُ، وما أسررتُ به وما أعلنتُ، وما أنت أعلم به منى. أنت المقدِّم وأنت المؤخِّر، وأنت على كل شىء قدير". متفق عليه (مشكاة المصابيح، تحقيق الألبانى حديث ٢٤٨٢). ويقول القرآن عن خطية الإنسان: "إن الإنسان لربه لكنود، وإنه على ذلك لشهيد" (العاديات٧،٦) وفى أثناء هذا البحث واجهتنى هذه الحقيقة العظيمة: إن النبى عيسى إنسان. ويعزو القرآن الخطأ إلى كل الأنبياء، ولكنه لا يسجّل للمسيح خطأ واحداً. وسألتُ نفسى: لماذا؟.. واتجهت بفكرى إلى الإنجيل فوجدت أمامى قول المسيح: "من منكم يبكتنى على خطية؟" (يوحنا ٨:٤٦) ويقول الإنجيل عن المسيح: "لأنه جعل الذى لم يعرف خطية، خطية لأجلنا، لنصير نحن برّ الله فيه" (٢ كورنثوس ٥: ٢١). ويقول أيضاً: "ليس لنا رئيس كهنة غير قادر أن يرثى لضعفاتنا، بل مُجرَّب فى كل شىء مثلنا، بلا خطيّة" (عبرانيين ٤: ١٥). ويقول أيضاً: "الذى لم يفعل خطية، ولا وُجد فى فمه مكر" (بطرس ٢:٢٢). ويقول: "وتعلمون أن المسيح أظهر لكى يرفع خطايانا، وليس فيه خطيّة" (١يوحنا ٣: ٥). وهكذا نرى أنّ عندنا برهاناّ أكيداّ أن كل البشر خطاة ما عدا المسيح. فكيف أتمكن من الحصول على الخلاص بأعمالى الصالحة، بينما الأولياء والأتقياء والفلاسفة قد فشلوا فى أن يعملوا الصلاح فقط. فاتجهتُ إلى القرآن أفحص تعاليمه مرةً أخرى. ووجدتُ آيتيين قرآنيتين أصابتانى باليأس: "وإنْ منكم إلا واردها. كان على ربك حتماً مقضياً. ثم ننجّى الذين اتّقوا ونَذَرُ الظالمين فيها جِثِيّاً" (مريم٧٢،٧١). ولا يستطيع أحد أن يتخيل مقدار الرعب الذى وقعت فيه بعد قراءة هاتين الآيتين. لقد كنت مريضاً أستشير القرآن كطبيب يقدم لى العلاج، ولكنه بدلاً من ذلك قال لى: "كل واحد لابد أن يدخل الجحيم، وهذا واجب حتمى على الله!". ولكن محبتى للإسلام وتعلّقى به منعانى من أن أتخذ قراراً سريعاً فى هذا الموضوع. وأردت أن أستشير التفاسير على هذه الآية وما يقوله الحديث عنها، لأفهم ما قاله نبى الإسلام نفسه عن هذا الموضوع. وبعد بحث كثير وجدت فى مسند الدرامى عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلعم: "يَرِدُ الناسُ النارَ ثم يصدرون منها بأعمالهم فمنهم كلمح البصر، ثم كالريح، ثم كحُضْر الفرس، ثم كالراكب المجِدّ فى رَحْله، ثم كشدّ الرجل فى مشيته" (عن تفسير القرطبى لسورة مريم (٧٢،٧١). وفى تفسير الطبرى على مريم٧٢،٧١ وجدت التالى: حدثنا أبو كريب، قال: كان أبو ميسرة إذا أوى إلى فراشه، قال: يا ليت أمى لم تلدنى. فقيل: وما يبكيك يا أبا ميسرة؟ قال: "أخبرنا أنّا واردوها، ولم يُخبرنا أنّا صادرون منها". حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن إسماعيل، عن قيس، قال: بكى عبد الله بن رواحة فى مرضه، فبكت امرأته، فقال: ما يبكيك؟ قالت: رأيتك تبكى فبكيتُ. قال أبو رواحة: "إنى قد علمت أنى وارد النار فما أدرى أناجٍ منها أنا أم لا". حدثنا الحسن بن يحي، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن إسماعيل بن أبى خالد، عن قيس بن أبى حازم، قال: كان عبد الله بن رواحة واضعٌ رأسه فى حجر امرأته، فبكى، فبكت امرأته، قال: ما يبكيكِ؟ قالت: رأيتك تبكى فبكيتُ. قال: إنى ذكرت قول الله "وإن منكم إلا واردها" فلا أدرى أنجو منها، أم لا؟ (تفسير الطبرى ـ مريم :٧١). لقد اتضح لى معنى الآية إذاً. لابد أن كل شخص يدخل النار ثم يخرج منها حسب أعماله. ومع أن معنى الآية واضح للغاية فى القرآن، إلا أنى أردت أن أُسند المعنى فى ذهنى بأقوال نبى الإسلام نفسه. وبالرغم من أنه كان يمكننى أن أتوقف عن البحث عند هذه النقطة، إلا أنى قررت أن أستمر فى الدراسة. وبعد بحث وصلت إلى هاتين الآيتين: "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة، ولا يزالون مختلفين، إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم. وتمّت كلمة ربك لأملأنَ جهنم من الجنّة والناس أجمعين" (هود ١١٩،١١٨). ولقد صدمتنى قراءة هاتين الآيتين صدمة عنيفة حتى أنى أغلقتُ القرآن وغبت مع أفكارى وقتاً طويلاً. وحتى عندما نمت لم أجد راحة، لأن أفكارى أصبحت كوابيس. كان صعباً علىّ للغاية أن أهجر إيمان آبائى، فقد كان موتى أهون علىّ من ذلك. وحاولت أن أجد طريقة تمنعنى من التفكير فى هذا الموضوع، وتبعدنى عن مواجهة المشكلة، حتى لا أترك دين آبائى. فأخذت أفتش من جديد فى الحديث. ولم يكن هذا الأمر سهلأ، لأن الأحاديث كثيرة وفى مجلدات كبيرة. ولكنى قررت أن أستمر فى الدراسة معتمداً على معونة الله. ولقد وجدتُ أن الأحاديث تحدد ثلاث طرق لنوال الخلاص: أولاً ـ الخلاص بالعمـل [١] لا توجد أيّة علاقة بين أعمال الإنسان وبين خلاصه. فحتى أشرّ الخطاة الذى قضى حياته فى المعاصى والكبائر يمكن أن يدخل الجنة. بينما يمكن أن أفضل الناس على الإطلاق، والذى صرف حياته فى العمل الصالح يدخل النار. وإليك الحديث التالى: عن أنس: أن النبى صلعم ومعاذٌ رديفُه على الرحل قال: "يا معاذ!" قال: لبيك يا رسول الله وسعديْك. قال: "يا معاذ!" قال: لبيك يا رسول الله وسعديْك، ـ ثلاثاً ـ قال: "ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، صدقاً من قلبه إلا حرّمه الله على النار". قال: يا رسول الله! أفلا أخبر به الناس فيستبشروا؟ قال: "إذاً يتكلوا". فأخبر بها معاذ عند موته تأثماً. متفق عليه (مشكاة المصابيح حديث ٢٥ تحقيق الألبانى). ولقد وجدت حديثاً آخر يؤيد نفس الفكرة مروىّ عن أبى ذر، يؤكد أن لا صلة بين عمل الإنسان وخلاص نفسه. فحتى الزانى والسارق يمكن أن يجدا مكاناً فى حياة النعيم إذا رددّا الشهادة. عن أبى ذر قال: أتيت النبى صلعم وعليه ثوب أبيض، وهو نائم، ثم أتيته وقد استيقظ، فقال: "ما من عبد قال: لا إله إلا الله، ثم مات على ذلك، إلا دخل الجنة "قلتُ: "وإن زنى وإن سرق؟". قال: "وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبى ذر". وكان أبو ذر إذا حدّث بهذا قال: "وإن رَغِمَ أنفُ أبى ذر". متفق عليه.(مشكاة المصابيح حديث ٢٦ تحقيق الألبانى). وقد وجدت حديثاً آخر شجعنى، لأن تكرار عبارة يمكن أن ينجى الإنسان من الهلاك ويهبه الحياة الأبدية. عن عبادة بن الصامت، قال: قال رسول الله صلعم: "من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وابنُ أمَتِه وكلمتُه ألقاها إلى مريم، وروحٌ منه، والجنةَ والنارَ حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل. متفق عليه (مشكاة المصابيح حديث ٢٧ تحقيق الألبانى). وروى أبو نعيم من حديث أبى الزبير عن جابر قال: "وسمعت رسول الله صلعم يقول: "لا يُدخِلُ أحداً منكم الجنة عملُهُ، ولا يجيرُه من النار، ولا أنا، إلا بتوحيد من الله تعالى". إسناده على شرط مسلم وأصل الحديث فى الصحيح (حادى الأرواح لابن قيم الجوزية الفصل التاسع عشر). وعندما قرأت هذه الأحاديث تبادر إلى ذهنى سؤال: هل من العدل أن إنساناً قضى حياته فى المعاصى والكبائر، ولم يفكر فى عمل أى خير يدخل الجنة، بينما يمضى آخَرُ إلى النار رغم أنه قضى حياته كلّها فى عمل الخير؟!.. وأثناء قراءتى وجدت الحديث التالى الذى يجعل دخول الجنة أوالنار تبعاً لما قُدِّر على الإنسان: حدَّثنا رسول الله (صلعم): "إنّ خَلْقَ أحدِكم يُجمَع فى بطن أمه أربعين يوماً، وأربعين ليلة ـ أو أربعين ليلة، ثم يكون عَلَقَة مثله، ثم يكون مُضْغةً مثله، ثم يَبْعَث الله إليه المَلَكَ، فيُؤذَنُ بأربع كلمات: فيكتب رزقَهُ وأجَلَه، وعمله، وشقىّ أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فإنّ أحدكم ليعمل بعَمَلِ أهلِ الجنة، حتى لا يكون بينها وبينه إلا ذراع، فيسبِقُ عليه الكتابُ، فيعمل بعمل أهل النار، فيدخُلُ النار. وإنّ أحدكم ليعمَل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينها وبينه إلا ذراع، فيَسْبِق عليه الكتابُ، فيعملُ عَمَلَ أهلِ الجنّة فيدخُلُها" (الأحاديث القدسية حديث١٠٠) رواه البخارى فى باب بدء الخلق ج ٤، وباب القدر ج ٨، وكتاب التوحيد ج ٩. ثانياً ـ الخلاص بالرحـمة وحـدها [٢] ووجدت أحاديث أخرى تقول إن خلاص نفس الإنسان يتوقف على رحمة الله وحدها، حتى أن نبى الإسلام يطلب رحمة الله وحدها، شأنه شأن أى إنسان آخر. ولا يمكن أن نبى الإسلام يخلص من خطاياه ما لم تتداركه رحمة الله وتتغمده. فيقول حديث عن عائشة، قالت: يا رسول الله! ما من أحد يدخل الجنة إلا برحمة الله تعالى؟ فقال: "ما من أحد يدخل الجنة إلا برحمة الله تعالى" ثلاثاً. قلتُ: ولا أنت يا رسول الله؟!.. فوضع يده على هامته فقال: "ولا أنا، إلا أن يتغمدنى الله برحمته" يقولها ثلاث مرات. رواه البيهقى فى "الدعوات الكبيرات" (مشكاة المصابيح حديث ١٣٠٥ تحقيق الألبانى). ولقد تعلمت من هذا أنه لا يمكن لإنسان أن يحصل على الخلاص إلا أذا تغمده الله برحمته، فطمأننى هذا الفكر. لكننى عدت أتساءل: إن كان الله رحيماً، فإنه أيضاً عادل. فإذا غفر الله خطاياى برحمته وحدها فإنه بهذا يوقف عمل عدالته. وهذا يعنى وقف عمل عدالته. وهذا يعنى وقف عمل صفة من صفات الله سبحانه. ولا شك أن هذا يُنقص من عظمة الله وكمالاته . ثالثا ـ علا قة محمـد بالخلاص [٣] أما الحقيقة الثالثة التى وصلت إليها من "الحديث" فهى أن نبى الإسلام لا يستطيع أن يخلص أى إنسان، حتى ابنته فاطمة أو أهل بيته. وعلى هذا فقد وجدت أن شفاعة محمد فى المؤمنين لاأساس لها، رغم أنى لوقت طويل كنت أؤمن أنها صحيحة. لقد قرأت الحديث التالى من البخارى: من حديث أبى هريرة قال: قال رسول الله صلعم حين أُنزل عليه "وأنذر عشيرتك الأقربين":"يا معشر قريش اشتروا أنفسكم من الله لا أُغْنى عنكم من الله شيئأ. يا بنى عبد المطلب، لا أُغْنى عنكم من الله شيئأً. يا عباس بن عبد المطلب، لا أُغْنى عنك من الله شيئاً. يا صفية عمة رسول الله، لا أُغْنى عنكِ من الله شيئاً. يا فاطمة بنت محمد سلينى ما شئتِ لا أُغْنى عنك من الله شيئاً" (عن تفسير الطبرى للشعراء ٢١٤). وهكذا وبعد دراسة ممتدة عميقة فى الأحاديث لم يبق لى جديد أكتشفه، فقد عرفت كل ما يمكن أن يُعرف. وهكذا أغلقتُ كتب الحديث. ورفعتُ قلبى إلى الله أدعوه: "إلهى، يا من تعلم السر وما خفى. منك المبدأ وإليك المنتهى. أشكو إليك ضعف قوّتى وقلّة حيلتى، وحيرة قلبى، وزيغة عقلى، ووهن جسدى. اللهم، اهْدِ قلبى لدينك القويم وصراطك المستقيم، وافتح لى أبواب رحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم، إنى أسألك بكل اسم هو لك سَمّيْتَ به نفسك أو علّمته أحداً من خَلْقك أو استأثرت به فى علم الغيب عندك، أن تبدّل خوفى أمناً، وحيرتى حقاً ويقيناً. اللهم، هذا جهدى وما أملك، فاجعل منه حقاً أنتهى إليه ويقيناً أحيا به وأموت عليه. إنك سميع مجيب الدعوات". طريـقُ المَسيحيّة للخــلاص وفى هذه الحالة اليائسة بدأت اقرأ الإنجيل المقدس، وأنا أرجو أن أصلح الكثير من أخطائى. فقرأت قول المسيح: "تعالوا إلىّ يا جميع المتعبين والثقيلى الأحمال وأنا أريحكم" (متى ١١: ٢٨) . ولا أستطيع أن أصف مقدار فرحى بهذه الآية. لم أكن أفتش عنها قصداً، كما أنى متأكد أنى لم أرها بالصدفة، لكن الله هو الذى أعطاها لى إجابة لصلاتى وبحثى وتفتيشى عن الحق. كانت هذه الآية بالنسبة لى أنا الخاطئ إعلاناً بأخبار مُفرحة. لقد تركت الآية تأثيرها العظيم على نفسى فمنحتنى السلام والراحة والفرح، وضاع منى فوراً كل إحساس بالضياع والقلق. إن المسيح يقول: "أنا أريحكم" هذا يعنى أن الخلاص متوقف عليه. أنه لا يشير إلى طريق نسلكه لنجد الراحة، لكنه هو نفسه الطريق، ثم قرأت بعد ذلك قوله: "أنا هو الطريق والحق والحياة. ليس أحد يأتى إلى الآب إلا بى". (يوحنا ١٤: ٦). ولكن سرعان ما داهم عقلى سؤال: هل يمكن أن يضع الإنسان ثقته فى هذا الوعد الضخم من المسيح؟.. وجاوبت: إن الإنسان يمكن أن يجد راحته فى هذه الكلمات، لأن المسيح فى نظر المسلمين كامل بلا خطية "وجيه فى الدنيا والآخرة" وهو "كلمة الله وروح منه". وهذه كلها تعلن كمال المسيح. ثم أن المسيحيين يقولون إنه الإله الكامل، والإنسان الكامل الذى خلت حياته من كل خطأ ورغبات أرضية. ولذلك فإن المسيح العظيم الكامل فى نظر المسيحيين والمسلمين لا بد يمتلك من الإمكانيات ما يجعله قادراً على تحقيق وعده بالراحة لكل من يأتى إليه. ثم بدأت أفكر فى مواعيد المسيح لى بالخلاص، فوجدت قول المسيح: "ابن الإنسان لم يأتِ ليُخدَم بل ليَخدِم وليبذل نفسه فدية عن كثيرين" (متى٢٠: ٢٨). وعندما قرأت هذه الآية اكتشفت أن المسيح يقدم للإنسان خلاصه، فقد بذل المسيح نفسه عن الخطاة، وهو الطريق العجيب الذى لايمكن للعالم كله أن يقدم نظيراً له. ولقد أسّس كثيرٌ من البشر دياناتٍ فى عالمنا، ولكن لم يقل واحد منهم إن موته سيكون سبب غفران الخطايا. المسيح وحده هو الذى قال عن نفسه هذه الكلمات، وحققها فعلاً. وعندما وصلتُ إلى هذه النتيجة امتلأت نفسى بالابتهاج الفائق الحد. وتركَتْ صورة المسيح ومحبته فى قلبى تأثيراً بالغاً. وعندما كنتُ منتشياً بهذه الفرحة السماوية، داهم عقلى سؤال: ولكن ما هى الحاجة إلى كفارة المسيح وتضحيته؟.. ألم يكن ممكناً أن يقدم الخلاص دون أن يموت؟.. وجعلتُ أفكر فى هذا السؤال الجديد ووجدت له الإجابة. إن الله رحيم وعادل. فلو أن المسيح وعدنا بالخلاص دون أن يبذل نفسه عنا، فإن مطالب الرحمة تكون قد ُوّفيت تماماً. لكن إن كان الله يريد أن يوفى مطالب عدله، فلا بد أن يكون المسيح كفّارة عن كثيرين بدمه. وهكذا بيّن الله محبته لنا. ثم وجدت فى الإنجيل هذا القول العظيم: "فى هذا هى المحبة: ليس أننا نحن أحببنا الله، بل أنه هو أحبنا، وأرسل ابنه كفارة لخطايانا". (١يوحنا ٤: ١٠). وظللت أفتش وأبحث فى العهد الجديد. قرأته عدة مرات من أوله إلى آخره، فوجدت مئات الآيات وعشرات الأمثال التى تبرهن بغير ظلال من شك أن الخلاص موجود فى الإيمان بالسيد المسيح، وهذا الخلاص يجب أن يكون هدف كل ديانة. فالإنجيل يقول: "ونحن نعلم أن كل ما تقوله الشريعة إنما تخاطب به الذين هم تحت الشريعة، لكى يُسدّ كل فم، ويقع العالم كله تحت دينونة من الله. فإن أحداً من البشر لا يتبرر أمامه بالأعمال المطلوبة فى الشريعة. إذ أن الشريعة هى لإظهار الخطيئة. أما الآن فقد أُعلن البر الذى يمنحه الله مستقلاً عن الشريعة، ومشهوداً له من الشريعة والأنبياء. ذلك البر الذى يمنحه الله على أساس الإيمان بيسوع المسيح، لجميع الذين يؤمنون. إذ لا فرق، لأن الجميع قد أخطأوا وهم عاجزون عن بلوغ ما يمجد الله. فهم يُبَرّرون مجاناً بنعمته بالفداء بالمسيح يسوع، الذى قدمه الله كفّارة عن طريق الإيمان وذلك بدمه" (رومية ٣: ١٩—٢٥). قـرارى واعتـرافى بناءً على ذلك، وبعد أن أكملت تفتيشى وبحثى كما وصفته هنا، وصلت إلى نتيجة أنى يجب أن أعلن مسيحيَتى. ووجدت أنه من واجبى أن أعرّف الجمعيّة التى أنتمى إليها بما وصلت إليه، ليفكروا فيه، ثم أكون حراً فى متابعة دراساتى علناً، فذهبت إلى الاجتماع كالعادة. وكان موعد مونشى منصور مسيح ليتكلم. ولكنى قاطعته قائلا: "فى هذه المناسبة يجب أن أبدأ أنا بالكلام ضد الإسلام". ثم بدأت أعلن نتيجة دراسة السنوات التى قضيتها فى البحث. واندهش المسئولون عن الجمعية من كلماتى، ولكنهم كانوا ينتظرون أن أنفى كل ما بدأت بقوله. وعندما انتهيت من الكلام وجلستُ وقف نائب الرئيس وقال: "نرجو أن الرئيس نفسه يهدم ما قاله ويصحح الأخطاء التى قدمها فى حديثه". فوقفت مرة أخرى وقلت: "أرجو أن تستمعوا إلىّ يا أصدقائى، فإنّ ما وضحته ليس شيئا سطحيّاً، ولا مُختلفاً، ولكنه قرار أكيد وقاطع، بنيتهُ على سنوات من البحث. ولأكون واضحاً فلقد بدأ بحثى فى ذلك اليوم الذى قال فيه السيّد مونشى منصور مسيح إننا يجب أن نبحث موضوع الخلاص. ففى ذلك الوقت وعدت الله أنى سأقرأ الكتاب المقدس، لا كما كنت أقرأه من قبل: للإنتقاد والهدم، إنما لأفتش فيه عن الحق، حتى يعلن الله لى طريق التبرير. فأزحت جانباً تعصُّبى وفلسفتى، وجعلت أقارن الأفستا واساتيارث براكاش والكتاب المقدس والقرآن، ووصلت إلى أن الخلاص موجود فى المسيح وحده. وهذا كل ما أستطيع أن أقوله، فإن كان فى بحثى نقص، فإنى أكون شاكراً لكم أيها السادة لو بيّنتموه لى. وإن كنتم تريدوننى أن أسحب ما قلته فإنى أعلن أن لا رجوع عما قلته. ولست أظن أن واحداً منكم يستطيع أن يهدم ما وصلت أنا إليه". وتركت الاجتماع لأنه لم يكن من الحكمة أن أبقى، فتبعنى فوراّ السيد مونشى واحتضننى. وسالت دموع الفرح من عينيه وقال بصوت مرتعش: "يجب أن تأتى معى، فليس من الأمان أن تقضى الليلة بمفردك فى حجرتك". فجاوبته: "إن أعضاء الجمعية من المسلمين المثقفين، ولست أخشى بطشهم". ثم قلت: "ولو أن هناك غيرهم ممن أخاف حماقتهم. سأجىء إلى بيتك مع طلوع الصباح. فإذا تأخرتُ عن ذلك، فأرجوك أن تأتى إلى غرفتى لتفتش عنى". ودخلت غرفتى وأغلقت الباب من الداخل وأطفأت النور، وجلست غارقاً فى أفكارى. وكانت ليلة امتحان. واتّضح أمامى أنى وقد صرت مسيحياً خسرت بلدى وجيرانى وحقوقى وأصدقائى. خسرت كل شيء. ثم أنى سأدخل المجتمع المسيحى المختلف عنى فى العادات والتقاليد وكل شىء. دارت كل هذه الأفكار فى رأسى، فكان من المستحيل أن أنام. وأخيراً قلت لنفسى: "يا سلطان، عليك أن تذكر أنك ابن الساعة التى أنت فيها، وأن العالم كله باطل فانٍ. وعندما ستموت لن ينفعك بلدك ولا ميراثك ولا عائلتك ولا أصحابك. فكل هؤلاء ينتمون إلى العالم الحاضر، ولن يبقى معك شىء أو شخص تمضى به إلى ما وراء القبر إلا إيمانك المبنى على أساس عمل المسيح. فلا يجب أن تترك الحياة الأبدية والسعادة الروحية من أجل فترة انتقالية". وعندما ركعت لأصلى قلت: يا مالك الملك، يا مبدع الخلق، إليك سلّمت وجهى، فتقبّل منى واغفر لى وارحمنى. ربنا، إنك تعلم ما نخفى وما نعلن. ربنا لا تجعل الدنيا أكبر همى وغمى، ولا تجعل فتنتى فى دينى.. أنت ملجئى وملاذى، بك أستعين وأستعيذ من كل ضعفٍ يحول بينى وبين الإيمان بابنك الوحيد يسوع المسيح ربنا. يا من قلت، وقولك الحق "تعالوا إلىّ يا جميع المتعبين والثقيلى الأحمال وأنا أريحكم" يا من وعدت ووعدك الصدق "اقرعوا يُـفتح لكم" إلهى أدعوك وأنا موقن بأنك سميع مجيب الدعوات، فتقبل منى صلاتى مشفوعة بدم مخلصنا الحبيب". وبعد أن انتهيت من الصلاة شعرت بالحاجة للنوم فنمت وقتاً قليلاً. وعندما استيقظت وجدت السعادة والفرح يغمران قلبى، وزال كل أثر للقلق وعدم الارتياح. وعندما بدأت تباشير الصباح أسرعت لأغتسل، وذهبت إلى بيت مونشى منصور مسيح، فوجدته مشغولاً علىّ. وكان قد جهّز الشاى لنشربه معاً. فتحدثنا بعض الوقت، ثم صرفنا فرصة فى الصلاة، بعدها ذهبت إلى بيت القس لاجيارد. واندهش القسيس من وصولنا مبكرين، فأوضح مونشى أننا نمزح. لكن عندما سمع بما حدث فى الليلة السابقة احتضننى فوراً وقال: "كنت أعلم أنك تدرس الكتاب المقدس بحماس ونشاط، ولا بد أنك ستصبح مسيحياً. فنشكر الله الذى أقنعك". ووعد أن يعمدنى بعد ثلاثة أيام. وطلب منى أن أبقى مع مونشى. وعندما جاء يوم الأحد امتلأت الكنيسة بالمسلمين، ولاحظ القس لاجيارد الخطر المحيط بى، فقرر تأجيل المعمودية. وأخيراً بنعمة من الله عمدنى صباح يوم ٦ أغسطس ١٩٠٣م. فى كنيسة القديس بولس فى بومباى. وبعد معموديتى سافرت إلى كانبور، فقد كان بقائى فى بومباى خطراً على حياتى. وجرى داخلى تغيير رائع عندما صرت مسيحياً. تغيّرت طريقة كلامى وأفعالى وكل أسلوب حياتى حتى أننى عندما زرت بومباى بعد سنة من ذلك اندهش أصدقائى المسلمون مما جرى معى. اندهشوا من رقّتى لأنهم كانوا يعلمون سرعة فقدان أعصابى. قبل أن أصبح مسيحياً كنت أعرف أنّ الخطية معصية. لكن لم أكن أدرك (كما أدرك الآن) أثر الخطية المدمر على الإنسان كله. ومع أنى لا زلت إنساناً ضعيفاً، مجرد حفنة تراب، إلا أنى عندما أخطئ ينتابنى الأسى على ما أفعل، وأخرّ على وجهى أمام الله بدموع عينىّ تائباً طالباً الغفران. أما أساس هذا الموقف من الخطية فهو معرفتى عن عمل المسيح الكفارى من أجل خطيتى. إن التوبة وحدها لا تستطيع أن تزيح الخطية، بل يجب أن أتطهر بدم المخلص الكريم. ولذلك ألاحظ أن عالمنا الذى يأخذ الخطية مأخذاً سهلاً يعرّض نفسه، ويقترب شيئاً فشيئاً من الدمار. ومع أن الشيطان يحاربنى بكل طاقته، إلا أنى لا أرتبك، لأنى أعلم أن المسيح قد سحق رأس الشيطان، فلا يقدر أن يؤذى أو يغلب أتباع المسيح الأمناء. وإنى أدعو الرب مالك السموات والأرض، وفاحص القلوب، أن يُرجع قلوب البعيدين إليه، وأن يريهم رعب اليوم الآخِر، واحتياجهم العظيم للخلاص، فيُقبلوا إلى المسيح مخلصهم، القادر وحده أن يخلّص إلى التمام. |