لمـاذا صـرتُ مَسيحيّـاً ؟

سلطان محمد بولس

حياتى الأولى ودراسـاتى :‏

‎بلدى الأصليّة أفغانستان.‏‎ ‎وكان والدى رحمه الله يقيم فى عاصمة لوجار التى تبعد ٧٥ كيلومتراً ‏من مدينة كابول. وكان والدى "بايانداخان" يشغل وظيفة لواء فى الجيش الأفغانى، وكان معروفاً ‏فى بلدنا باسم "اللواء باهادور خان" وكان متزوجاً من زوجتين، أولاهما من قريباته، ولدت له ‏ثلاث بنات ولم تلد له ولداً. لذلك تزوّج ابنة السيد "محمد أقا" من أكثر العائلات النبيلة والمشهورة ‏فى أفغانستان لينجب ابناً ذكراً وكنت أنا وشقيقى" تاج محمد خان" ثمرة هذا الزواج. ولقد وُلدت ‏سنة ١٨٨١م.‏

وبعد وصول الأمير عبد الرحمن خان من روسيا ليتولى عرش كابول، ألقى القبض على ستة ‏رجال من قادة بلادنا وأرسلهم إلى جهة غير معروفة، ثم قتلهم بعد ذلك. وكان والدى أحد هؤلاء ‏الستة. فكانت تلك كارثة حلّت بنا، سرعان ما تبعتها كارثة أخرى، فقد ألقى القبض على إثنين من ‏أخوالى سُجنا فى كابول، ثم اُستبعدا إلى الهند. وبعد ذلك سمح الأمير لخالى الثالث أن يترك البلاد ‏مع أمه وخَدَمه ليسافروا الى الهند. بينما بقيت بقيّة العائلة فى كابول.‏

وعندما وصلوا إلى الهند استقروا فى "حسن عبدل". وواجهت بقية العائلة فى كابول مصاعب ‏سياسيّة، فانتقلت كلها لتقيم فى "حسن عبدل". وهناك ماتت أمّى. بعد ذلك تمّ الصلح بين عائلتى ‏والأمير عبد الرحمن خان، فرجعنا كلّنا إلى بلدنا الأصليّة.‏

سافرت بعد ذلك إلى "دلهى" ودخلت مدرسة إسلاميّة لأتقن اللغة العربيّة، وكان رئيس المدرسة ‏مولانا عبد الجليل، وهو باتهانى (أفغانى مقيم بالهند)، والثانى كان مولانا فاتح محمد خان من ‏قندهار.‏‎ ‎وبمساعدة هذين السيّدين الكريمين أكملت دراسة علم الكلام، ثم أقبلت على دراسة ‏الأحاديث والتفاسير. وكنت أثناء النهار أدرس مع زملائى، وفى الأمسيات أتلقّى دراسات خاصّة ‏على يدىّ السيّد عبد الجليل. وبفضلٍ من الله امتلكت ناصية العلوم التى كنت أود أن أدرسها.‏

المواجهة الأولى مع المسيحيّين:‏

وذات يوم فى طريق عودتى مع بعض أصدقائى من نزهة، مررت بجماعة كبيرة من الناس ‏مجتمعة على بُعد قريب من مدرستنا. وعندما اقتربت منهم سمعت حواراً يدور عن عقيدة التثليث ‏بين واعظ مسيحى وبعض تلاميذ مدرستنا. وكان الواعظ يحاول أن يبرهن عقيدته فى الثالوث من ‏قول القرآن "ونحن أقرب إليه من حبل الوريد" (ق١٦) فقال: إن كلمة "نحن" بصيغة الجمع تدلّ ‏على أنّ وحدانيّة الله وحدانية مركبة، لا وحدانيّة بسيطة. فلو كانت وحدانيّة الله بسيطة لقال "أنا". ‏ولم يقدر تلاميذ مدرستنا أن يجاوبوه. فطلب أصدقائى منى أن أردّ، فتدخلت وقلت: "إن كلمة نحن ‏بصيغة الجمع تدل على الجلال والعظمة".وكانت تلك أوّل فرصة لى ألتقى فيها مع مسيحى فى ‏دائرة الجدال والمناظرة. وتولدت داخلى فى ذلك اليوم رغبة فى مجادلة المسيحيين. وبدأت أجمع ‏الكتب التى تهاجم المسيحية ودرستها بدقة. ثم أخذت أذهب فى أيام معيّنة إلى مكان الحوار ‏لمناقشة الوعّاظ المسيحيّين.‏

وذات يوم أعطانى أحد الوعاظ عنوانه وطلب منّى أن أزوره فى بيته مع أى عدد من ‏أصدقائى، فاصطحبت ثلاثة منهم وذهبت إلى بيته، فكان صدوقاً ولطيفاً. وأثناء احتساء الشاى ‏دارت بيننا مناقشة جذابة حول الدين. فسألنى: "هل قرأت الكتاب المقدس؟"‏‎ ‎فجاوبته: "لماذا أقرأ ‏كتاباً تحرّف.. ولا زلتم تغيّرون فيه كل سنة؟!.. "فظهرت على وجه القسيس علامات أسى وقال ‏بابتسامة باهتة: "هل تظن أن كل المَسيحيّين خوَنة؟!.. هل تظن أن مخافة الله ناقصة عندنا حتى ‏أننا نخدع العالم بتغيير كتابنا المقدس؟!.. إنّ المُسلمين وهم يتهمون المَسيحيّين بتحريف كتابهم إنما ‏يتهمونهم بعدم الأمانة والخداع، وهذه اتهامات شنيعة!.. إنّ المَسيحيّين يؤمنون أنّ الكتاب المقدس ‏هو كلمة الله، كما يؤمن المسلمون بالقرآن. فإن لم يكن هناك مُسلم يغيّر كتابه بسبب حبه له، فهل ‏تظن أن المسيحيّين يغيّرون الكتاب الذى أعطاه لهم الله كلّى الحكمة؟!.. ولو افترضنا أن مسلماً ‏مخادعاً جرؤ على أن يغيّر آية من القرآن، ألا تظن أن سائر المُسلمين يلومونه ويفضحون فعلته ‏الشنيعة؟!.. هذا ما سيفعله بقية المَسيحيّين الذين يحبون كتابهم من كل قلبهم لو أن أحداً تجرأ أن ‏يُجرى فيه تغييراً. وأؤكد لك أن كل مَسيحىّ يحبّ كتابَه سيهُبّّ للدفاع عنه وفَضْح الذى يريد أن ‏يغيّره. ومن هذا ترى أن اتهام المُسلمين للمسيحيّين بأنهم غيّروا كتابهم اتهام لا يقومُ على دليل. ‏وأعتقد أن المُسلمين الذين يتهموننا بتغيير كتابنا المقدس يجهلون كتابنا كما يجهلون إيماننا ‏وعقائدنا".‏

ثم قدّم لى القسيس نسختين من الكتاب المقدس، إحداهما باللغة الفارسية والأخرى باللغة ‏العربية، وطلب منى أن أقرأهما. فشكرناه وخرجنا من بيته. ولم أعر ما قاله القسيس التفاتاً، ولا ‏فتحت أيّاً من الكتابين اللذين أعطاهما لى، فقد كانت كل رغبتى قراءة أجزاء معيّنة فقط من الكتاب ‏المقدس بهدف اكتشاف الأخطاء التى أشار إليها أصحاب الكتب التى تهاجم الكتاب المقدس. ولم ‏أجد عندى حاجة لأقرأه كله، وصرفت مدة إقامتى فى دلهى أجادل المسيحيين وأهاجمهم.‏

دراسـات أعمـق :‏

واستقر عزمى على أن أسافر إلى بومباى، حيث كان لى حظ مقابلة مولانا هدايات الله. وكان ‏محترماً فى كل المنطقة كرجل متفقّه فى علوم الدين بدرجة عظيمة. وكان أصلاّ من كابول ‏ويعرف عائلتى. وعندما عرفنى وعد أن يقدم لى كل معونة ممكنة، ونصحنى أن أدرس الأدب، ‏وسمح لى أن استخدم مكتبته العظيمة، فبدأت أدرس تحت إرشاده. وكان قد تعلم فى القسطنطينيّة ‏والقاهرة والجزيرة العربية، وكان عظيم المعرفة وأعطانى دروساً فى الفارسية.‏

وجاء فى ذلك الوقت أستاذ عظيم وعالم جليل فى الفلسفة والمنطق من مصر، هو مولانا عبد ‏الأحد، وهو أصلاً من منطقة جلال أباد فى أفغانستان. والتحقت بالمدرسة التى يدرّس فيها، ‏وتلقّيت العلم على يديه، ولقد عاملنى كابن له وأعطانى غرفة قريبة من غرفته لأكون قريباً منه، ‏فأحصل على نصائحة وتعاليمه فى أى وقت أشاء.‏

مزيد من الجدل مع المسيحيين :‏

ذات يوم كنت أتمشى مع بعض أصدقائى الطلاب عندما وجدت بعض الوعاظ المسيحيين ‏يخاطبون الناس، فتذكرت ما حدث معى فى دلهى واتجهت بعزم نحوهم فشدّنى أحد زملائى وقال ‏لى:‏‎ ‎‏"لا تلق انتباهاً لمثل هؤلاء الناس ولا تضيّع الوقت وأنت تجادلهم. إن كل ما يدفعهم إلى ‏عملهم هو الأجر الذى يتقاضونه. فلا فائدة من الحوار معهم". فأجبته: أعرف أن هؤلاء الناس قد ‏لا يعرفون أسلوب الجدل، لكنهم يعرفون كيف يضللون الناس. ومن واجبنا نحن المسلمين ‏الصادقين أن ننقذ إخوتنا المسلمين البسطاء من مكرهم وخداعهم. واتجهت فوراً نحوهم، وأثرتُ ‏مجموعة نقاط هجوماً على المسيحية، فأجابونى بكثير من التوضيح. واضطررنا أن نوقف الجدل ‏بسبب ضيق الوقت وانتشر خبر حوارى مع القسيس بين طلبة المدرسة، فامتلأوا بالغيرة ‏والحماسة، وأقبلوا على الجدال. فكنا نذهب مرتين أسبوعياً لنجادل المسيحيين. وقال لنا أحد ‏القسوس إن المكان الذى نلتقى فيه للحوار بعيد علينا، واقترح أن يستأجر غرفة قريبة من المدرسة ‏تكون مكان لقاء وحوار يستمر. فقبلتُ هذاالعَرْض، وكنا نلتقى معه فى تلك الغرفة فى أوقات ‏يحددها من قبل.‏

ولما وجدت أن زملائى التلاميذ لا يعرفون الديانة المسيحية، وغيرمختبرين فى فن الحوار، ‏نصحنى مولانا "عباس خان صاحب" أن أستأجر بيتاً نتحاور فيه، ففعلت ذلك، وكوّنتُ جماعة ‏‏"ندوة المتكلمين" وكان هدفنا أن ندرّب الدعاة الإسلاميّين ليحاوروا المسيحيّين ويخرسونهم.‏

ولما وجد أستاذى أن كل اهتمامى موجّه للجدال والمناظرة، جاء إلى غرفتى بعد صلاة المغرب ‏فوجدنى أقرأ الإنجيل. فقال بغضب: "أخشى أن تصبح مسيحياً". فضايقنى تعليقه، ولم أشأ أن ‏أسِىءَ إليه، ولكنى وجدت نفسى أقول له: "هل يمكن أن شخصاً مثلى يجادل المسيحيّين كل هذا ‏الجدل ويصبح مسيحيّاً؟!.. وهل قراءة الإنجيل تصيّر الإنسان مسيحيّاً؟!.. إننى أدرسه لأدمّر ‏المسيحيّة من أساسها. كنت أظنّك تشجعنى على أن أجد الأخطاء فى هذا الكتاب".‏‎ ‎فقال: "إننى ‏أقول لك هذا لأننى سمعت أن الذى يقرأ الإنجيل يصبح مسيحيّا. ألم تسمع الكلمة الحكيمة من ‏شاعرنا الذى قال: "الذى يقرأ الإنجيل يتحوّل قلبه عن الإسلام؟" فقلت له: "هذه معلومة خاطئة". ‏ولمّا لمْ أقبلْ نصحَه تركنى ومضى.‏

الحـجّ إلى مكّـة :‏

استمر جدلى مع المسيحيين عدة سنوات، ثم خطر لى خاطر ألحّ علىّ.. أنْ أحِجّ إلى مكة. ‏فجهزت نفسى وسافرت إلى هناك. ومن مكة كتبتُ رسائلَ إلى مولانا حسام الدين محرر مجلة ‏‏"كشف الحقائق". وفى يوم الحج لبست ملابس الأحرام وسرت نحو عرفات. وفى ذلك اليوم رأيتُ ‏منظراً رائعاً.. رأيتُ الفقراء والأغنياء، العال والدون، جميعاً يلبسون الزىّ الأبيض نفسه، وكأن ‏موتى القبور قد بُعثوا من قبورهم ليقدّموا حساباً عن عملهم. وسالتْ الدموع من عينىّ. ولكن طرأ ‏خاطر قوى على فكرى: لو أن الإسلام لم يكن الدين الصحيح، فماذا تكون حالتى فى اليوم ‏الآخر؟!.. فدعوت الله: "اللهم أرنى الحق حقاً وارزقنى اتّباعه، وأرنى الباطل باطلاً وارزقنى ‏اجتنابه. يا مُثبت القلوب ثبت قلبى على الإسلام إن كان حقاً وصدقاً، ولا تُزلّ قدمى بعد ثبوتها. ‏وإن كان باطلاً فاصرفنى عنه. إلهى هذا قلبى بين يديك خالصاً لوجهك الكريم، فوفقْه لما تحبّه ‏وترضاه. إنك نعم المولى ونعم المجيب".‏

وبعد زيارة قصيرة للمدينة رجعت إلى بومباى. وأثناءَ غيابى توقفتْ "ندوة المتكلمين". فأسستُ ‏جماعة أخرى اختارونى رئيساً لها، كما اختاروا عبد الرؤوف ليكون سكرتيراً فكنا نجتمع قريباً ‏من منزله. ورتبنا أن ندعو أسبوعياً شخصاً غيرَ مسلم ليخاطبنا ثم يجاوب واحد منا على ما أثاره ‏الضيف المسيحى. واعتاد رجل الدين المسيحى مونشى منصور مسيح أن يجىء إلينا بانتظام .‏

موضـوع أساسى :‏

وذات يوم كلّمنا مونشى منصور مسيح عن أن الإسلام لا يقدم طريقاً للخلاص. وطلب أعضاء ‏جمعيتنا منى أن أردّ عليه، فحاولت بكل طاقتى أن أبرهن أن فى الإسلام طريقاً أكيداً للخلاص. ‏وفرح الحاضرون بكلامى، ولكننى علمت فى أعماقى أن ما قلته ليس مقنعاً. وأثناء حديثى كنت ‏أحس أن ما أقوله ضعيف بالرغم من أن صوتى كان أعلى من صوت مناظرى!.. غير أن صوت ‏مناظرى الرقيق كان يرنّ كالرعد فى أعماق نفسى بقوة غير عادية وانتهت المناقشة فى الحادية ‏عشرة قبل منتصف الليل. فعدت إلى بيتى أفكر فيما قاله مونشى منصور مسيح. وكلما فكرت ‏أدركت أن خلاص النفس من براثن الخطية هو أهم هدف لأى دين، بل هو الأساس الحقيقى ‏للدين، وبدونه لا يكون ديناً قيّماّ.‏

ولقد تذكرت أن كل الأديان تعلّم أن الإنسان ظلوم كفـّار، جاحد، نفسه أمّارة بالسوء. ولن تجد ‏إنساناً يعيش حياة طاهرة دون أن تلطخها الخطية، فالخطية هى الطبيعة الثانية للإنسان حتى أننا ‏نقول: إن الخطأ شيمة البشر. والسؤال الأساسى هو: كيف ننجو من عقوبة خطايانا؟!.. كيف نجد ‏خلاص نفوسنا؟.. ماذا يقول الإسلام لنا؟.. وما هى رسالة المسيحية فى هذا الموضوع؟.. ولقد ‏وجدت أن من واجبى الأول هو دراسة وبحث هذا الموضوع الهام وبكل أمانة ومن غير تحيّز. ‏فإذا وجدت أن الخلاص فى الإسلام شكرت الله على ذلك، وكم ستكون حالتى سعيدة! وإن لم أجد ‏الخلاص فى الإسلام، فعلىّ أن أفتش على خطة الله للخلاص الذى يمكن أن يشبع قلبى. وعندما ‏وصلت إلى هذا القرار ركعت على ركبتىّ فى دعاء إلى الله وانا أبكى قائلا: "لن أقرأ الكتاب ‏المقدس كما سبق لى أن قرأت، لكننى سأقرأه كخاطئ عاجز، يحاول أن يجد طريق الخلاص".‏

رغبتى فى الخـلاص :‏

منذ ذلك اليوم تبدّل موقفى وصرت باحثاً مخلصاً وراء الحق، فبدأت أدرس الكتاب المقدس ‏والقرآن دراسة مقارنة. ولأُرضى ضميرى أخذت نسخة من كتاب "الأفستا" من صديق فارسى، ‏كما اشتريتُ نسخة من ساتيارث براكاش، وبدأت أقارن كل هذه الكتب معاً. بعد قراءة "الأفستا" ‏بعناية تحدثت مع علماء فارسيين، ولكنى لم أجد عندهم طريقاً معقولاً محدداً للخلاص. فاتجهت ‏بعد ذلك لدراسة "الساتيارث براكاش" كما كتبها "سوامى داياناي سارسناتى" الذى يُعتبر المرجع ‏الأساسي لعقائد "أريا ساماج" وفتشت على ضالتى المنشودة. ولكننى وجدت عقائد غريبة أوقفت ‏شعر رأسى، إذ وجدت أن الله لا يمكن أن يغفر الخطيّة. واستغربت كيف ينضم الناس إلى "الأريا ‏ساماج" بينما لا تقدم لهم أى أمل للخلاص، فتعاليم أريا ساماج تقول إن الله لا يمكن أن يغفر ‏خطايا الإنسان التى ارتكبها قبل اعتناقه الأريا ساماج ولا بعد ذلك، ولا مفرّ من العقوبة. كما أننى ‏اكتشفت أن الأريا ساماج تعتبر الخلاص أمراً مؤقتاً لا يمكن أن يضمنه الإنسان. ولما كان ‏الخلاص مؤقتاً فإن الإنسان يعيش فى خوف مستمر من رفض الإله له. إذاً ليس عندهم خلاص ‏لشخص مثلى. فتوقفت عن دراسة "الساتيارث".‏

وكانت أثقل مسئولية تعرضت لها أن أدرس القرآن والحديث لأجد طريق الخلاص. ورفعت ‏يدىّ إلى الله فى دعاء: "اللهم، إنك تعلم أنى بك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، فاغفر لى ‏وارحمنى يا أرحم الراحمين، وأنر قلبى بنورك الذى لا ينطفئ، واهدنى صراطك المستقيم. اللهم ‏إن أحييتنى فأحينى وأنت راضٍ عنى، وإن توفيتنى فأغفر لى فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت".‏

ولم أجد فى دراستى للقرآن جديداً، لأنى درسته من قبل دراسة وافية، وعرفت أن الحصول ‏على الخلاص متوقف على العمل الصالح الذى يؤديه الإنسان. ووجدت عدة آيات تعلن هذه ‏الفكرة، أقتبس للقارئ أربع آيات منها:‏

"أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنّات المأوى نُزُلاً بما كانوا يعملون. وأما الذين فسقوا ‏فمأواهم النار. كلما أرادوا أن يخرجوا منها أُعيدوا فيها، وقيل لهم: ذوقوا عذاب النار الذى كنتم به ‏تكذّبون"‏‎ ‎‏(السجدة٢٠،١٩).‏

"فمن يعمل مثقال ذرّة خيراً يَرَه، ومَنْ يعمل مثقال ذرّة شراً يَرَه" (الزلزلة ٨،٧).‏

وعندما نلقى النظرة الأولى على هذه الأ يات نكتشف أنها جميلة ومشجعة، ولكنها أثارت داخلى ‏سؤالاً: هل يمكن أن يعمل الإنسان الخير دون الشر؟ وعندما فكرت فى شهوات الإنسان ورغباته ‏اتضح لى أنه من المستحيل أن يعمل الإنسان الخير وحده، ولا يمكن أن يكون عمله دائماً عملاً ‏صالحاً فقط. ولقد قال رجال الفلسفة العرب إن هناك أربع ملكات عقلية للإنسان وراء كل أفعاله، ‏ثلاث منها تقوم ضد صالح الإنسان الدينى، وواحدة فقط "هى القدرة الملائكية" التى توجّه الإنسان ‏نحو الله وتعاونه على طاعة أوامره. ولو أن تأثير هذه مخفىّ عن عين الإنسان. أما الثلاثة ‏الأخرى التى تقاوم اتجاه الإنسان إلى الله فهى واضحة، ويسعد الإنسان بها. ولما كان الإنسان لا ‏يرى إلا ما يطفو على السطح، ولا يهتم إلا بالحاضر، ويوجّه انتباهه إلى الأمور الأرضية أكثر ‏من اهتمامه بالأمور الدينية، فقد كتب أحد المسلمين البارزين يقول: "إننى واقع فى شَرَك أربعة ‏أشياء تسبّب سيطرتُها علىّ كل بؤسى وآلامى، هى: الشيطان والعالم والشهوة والجشع. فكيف ‏أحرر نفسى منها، وكلها عدوّتى؟ إن الشهوات الشريرة تدمّرنى وتلقينى فى ظلمة يأس من ‏الحسّيَات والملذات".‏

أما الملكات العقلية الثلاث السيئة فقد سيطرت على الملائكة وعلى آدم حتى وقتنا الحاضر كما ‏يقول الحديث التالى: "روى عن أبى هريرة قال محمد: لما خلق الله سبحانه وتعالى آدم مسح ‏ظهره، فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة، وجعل بين عينى كل ‏إنسان وبيصاً من نور. ثم عرضهم على آدم، فقال آدم: أى رب، من هؤلاء؟ قال: هؤلاء ذريتك. ‏فرأى رجلاً منهم فأعجبه وبيص ما بين عينيه. فقال: يا رب، من هذا؟ قال داود. قال: كم جعلت ‏عمره؟ قال: ستين سنة. قال: يا رب زدْه من عمرى أربعين سنة. قال محمد: فلما انقضى عمر ‏آدم إلا أربعين جاءه ملك الموت، فقال آدم: أوَلم يَبْقَ من عمرى أربعون سنة؟ قال: أوَلم تعطها ‏ابنك داود؟ فجحد آدم فجحدت ذريته، ونسى آدم فأكل من الشجرة فنسيت ذريته" (أخرجه الترمذى ‏وغيره).‏

ومن هذا الحديث نرى بوضوح أن كل أبناء آدم خطاة، لأن خطية آدم دخلتهم جميعاً بمن فيهم ‏الأولياء والأتقياء. وهكذا اعترف آدم وحواء: "قالا: ربنا ظلمنا أنفسنا، وإن لم تغفر لنا وترحمنا ‏ولنكوننّ من الخاسرين" (الأعراف ٢٣). ويقول النبى إبراهيم: "ربنا أغفر لى ولوالدىّ وللمؤمنين ‏يوم يقوم الحساب" (إبراهيم٤١).‏

وعن أبى هريرة، قال: كان رسول الله (صلعم) يسكت بين التكبير وبين القراءة إسكاتة. فقلت: ‏بأبى أنت وأمى يا رسول الله! إسكاتك بين التكبير وبين القراءة ما تقول؟ قال: "أقول: اللهم باعد ‏بينى وبين خطاياى كما باعدتَ بين المشرق والمغرب. اللهم نقّنى من الخطايا كما ينقّى الثوب ‏الأبيض من الدنس. اللهم اغسل خطاياى بالماء والثلج والبرد" متفق عليه (مشكاة المصابيح تحقيق ‏الألبانى حديث ٨١٢).‏

وعن أبى موسى الأشعرى، عن النبى صلعم: أنه كان يدعو بهذا الدعاء: "اللهم اغفر لى ‏خطيئتى، وجهلى، وإسرافى فى أمرى، وما أنت أعلم به منى. اللهم أغفر لى جدّى وهزلى، ‏وخطئى وعمدى، وكل ذلك عندى. اللهم أغفر لى ما قدمتُ وما أخرتُ، وما أسررتُ به وما ‏أعلنتُ، وما أنت أعلم به منى. أنت المقدِّم وأنت المؤخِّر، وأنت على كل شىء قدير". متفق عليه ‏‏(مشكاة المصابيح، تحقيق الألبانى حديث ٢٤٨٢).‏

ويقول القرآن عن خطية الإنسان: "إن الإنسان لربه لكنود، وإنه على ذلك لشهيد" ‏‏(العاديات٧،٦) ‏

وفى أثناء هذا البحث واجهتنى هذه الحقيقة العظيمة: إن النبى عيسى إنسان. ويعزو القرآن ‏الخطأ إلى كل الأنبياء، ولكنه لا يسجّل للمسيح خطأ واحداً. وسألتُ نفسى: لماذا؟.. واتجهت ‏بفكرى إلى الإنجيل فوجدت أمامى قول المسيح: "من منكم يبكتنى على خطية؟" (يوحنا ٨‏:٤٦) ويقول الإنجيل عن ‏المسيح: "لأنه جعل الذى لم يعرف خطية، خطية لأجلنا، لنصير نحن برّ الله فيه" (٢ كورنثوس ٥: ‏‏٢١). ويقول أيضاً: "ليس لنا رئيس كهنة غير قادر أن يرثى لضعفاتنا، بل مُجرَّب فى كل شىء ‏مثلنا، بلا خطيّة" (عبرانيين ٤: ١٥). ويقول أيضاً: "الذى لم يفعل خطية، ولا وُجد فى فمه مكر" (بطرس ٢‏:٢٢). ويقول: "وتعلمون أن المسيح أظهر لكى يرفع خطايانا، وليس فيه خطيّة"‏‎ ‎‏(١يوحنا ‏‏٣: ٥).‏

وهكذا نرى أنّ عندنا برهاناّ أكيداّ أن كل البشر خطاة ما عدا المسيح.‏‎ ‎فكيف أتمكن من ‏الحصول على الخلاص بأعمالى الصالحة، بينما الأولياء والأتقياء والفلاسفة قد فشلوا فى أن ‏يعملوا الصلاح فقط. فاتجهتُ إلى القرآن أفحص تعاليمه مرةً أخرى. ووجدتُ آيتيين قرآنيتين ‏أصابتانى باليأس: "وإنْ منكم إلا واردها. كان على ربك حتماً مقضياً. ثم ننجّى الذين اتّقوا ونَذَرُ ‏الظالمين فيها جِثِيّاً" (مريم٧٢،٧١). ولا يستطيع أحد أن يتخيل مقدار الرعب الذى وقعت فيه بعد ‏قراءة هاتين الآيتين. لقد كنت مريضاً أستشير القرآن كطبيب يقدم لى العلاج، ولكنه بدلاً من ذلك ‏قال لى: "كل واحد لابد أن يدخل الجحيم، وهذا واجب حتمى على الله!".‏

ولكن محبتى للإسلام وتعلّقى به منعانى من أن أتخذ قراراً سريعاً فى هذا الموضوع. وأردت ‏أن أستشير التفاسير على هذه الآية وما يقوله الحديث عنها، لأفهم ما قاله نبى الإسلام نفسه عن ‏هذا الموضوع. وبعد بحث كثير وجدت فى مسند الدرامى عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول ‏الله صلعم: "يَرِدُ الناسُ النارَ ثم يصدرون منها بأعمالهم فمنهم كلمح البصر، ثم كالريح، ثم كحُضْر ‏الفرس، ثم كالراكب المجِدّ فى رَحْله، ثم كشدّ الرجل فى مشيته" (عن تفسير القرطبى لسورة مريم ‏‏(٧٢،٧١). وفى تفسير الطبرى على مريم٧٢،٧١ وجدت التالى: حدثنا أبو كريب، قال: كان أبو ‏ميسرة إذا أوى إلى فراشه، قال: يا ليت أمى لم تلدنى. فقيل: وما يبكيك يا أبا ميسرة؟ قال: "أخبرنا ‏أنّا واردوها، ولم يُخبرنا أنّا صادرون منها".‏

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن إسماعيل، عن قيس، قال: بكى عبد الله بن رواحة فى ‏مرضه، فبكت امرأته، فقال: ما يبكيك؟ قالت: رأيتك تبكى فبكيتُ. قال أبو رواحة: "إنى قد علمت ‏أنى وارد النار فما أدرى أناجٍ منها أنا أم لا".‏

حدثنا الحسن بن يحي، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن إسماعيل بن أبى خالد، ‏عن قيس بن أبى حازم، قال: كان عبد الله بن رواحة واضعٌ رأسه فى حجر امرأته، فبكى، فبكت ‏امرأته، قال: ما يبكيكِ؟ قالت: رأيتك تبكى فبكيتُ. قال: إنى ذكرت قول الله "وإن منكم إلا واردها" ‏فلا أدرى أنجو منها، أم لا؟ (تفسير الطبرى ـ مريم :٧١).‏

لقد اتضح لى معنى الآية إذاً. لابد أن كل شخص يدخل النار ثم يخرج منها حسب أعماله. ومع ‏أن معنى الآية واضح للغاية فى القرآن، إلا أنى أردت أن أُسند المعنى فى ذهنى بأقوال نبى ‏الإسلام نفسه. وبالرغم من أنه كان يمكننى أن أتوقف عن البحث عند هذه النقطة، إلا أنى قررت ‏أن أستمر فى الدراسة. وبعد بحث وصلت إلى هاتين الآيتين: "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة ‏واحدة، ولا يزالون مختلفين، إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم. وتمّت كلمة ربك لأملأنَ جهنم من ‏الجنّة والناس أجمعين" (هود ١١٩،١١٨).‏

ولقد صدمتنى قراءة هاتين الآيتين صدمة عنيفة حتى أنى أغلقتُ القرآن وغبت مع أفكارى وقتاً ‏طويلاً. وحتى عندما نمت لم أجد راحة، لأن أفكارى أصبحت كوابيس. كان صعباً علىّ للغاية أن ‏أهجر إيمان آبائى، فقد كان موتى أهون علىّ من ذلك. وحاولت أن أجد طريقة تمنعنى من التفكير ‏فى هذا الموضوع، وتبعدنى عن مواجهة المشكلة، حتى لا أترك دين آبائى. فأخذت أفتش من ‏جديد فى الحديث. ولم يكن هذا الأمر سهلأ، لأن الأحاديث كثيرة وفى مجلدات كبيرة. ولكنى ‏قررت أن أستمر فى الدراسة معتمداً على معونة الله.‏

ولقد وجدتُ أن الأحاديث تحدد ثلاث طرق لنوال الخلاص:‏

أولاً ـ الخلاص بالعمـل

‏[١] لا توجد أيّة علاقة بين أعمال الإنسان وبين خلاصه. فحتى أشرّ الخطاة الذى قضى حياته فى ‏المعاصى والكبائر يمكن أن يدخل الجنة. بينما يمكن أن أفضل الناس على الإطلاق، والذى صرف ‏حياته فى العمل الصالح يدخل النار. وإليك الحديث التالى: عن أنس: أن النبى صلعم ومعاذٌ رديفُه ‏على الرحل قال: "يا معاذ!" قال: لبيك يا رسول الله وسعديْك. قال: "يا معاذ!" قال: لبيك يا رسول ‏الله وسعديْك، ـ ثلاثاً ـ قال: "ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، صدقاً من ‏قلبه إلا حرّمه الله على النار". قال: يا رسول الله! أفلا أخبر به الناس فيستبشروا؟ قال: "إذاً ‏يتكلوا". فأخبر بها معاذ عند موته تأثماً. متفق عليه (مشكاة المصابيح حديث ٢٥ تحقيق الألبانى).‏

ولقد وجدت حديثاً آخر يؤيد نفس الفكرة مروىّ عن أبى ذر، يؤكد أن لا صلة بين عمل ‏الإنسان وخلاص نفسه. فحتى الزانى والسارق يمكن أن يجدا مكاناً فى حياة النعيم إذا رددّا ‏الشهادة. ‏

عن أبى ذر قال: أتيت النبى صلعم وعليه ثوب أبيض، وهو نائم، ثم أتيته وقد استيقظ، فقال: ‏‏"ما من عبد قال: لا إله إلا الله، ثم مات على ذلك، إلا دخل الجنة "قلتُ: "وإن زنى وإن سرق؟". ‏قال: "وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبى ذر". وكان أبو ذر إذا حدّث بهذا قال: "وإن رَغِمَ ‏أنفُ أبى ذر". متفق عليه.(مشكاة المصابيح حديث ٢٦ تحقيق الألبانى).‏

وقد وجدت حديثاً آخر شجعنى، لأن تكرار عبارة يمكن أن ينجى الإنسان من الهلاك ويهبه ‏الحياة الأبدية.‏

عن عبادة بن الصامت، قال: قال رسول الله صلعم: "من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك ‏له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وابنُ أمَتِه وكلمتُه ألقاها إلى مريم، ‏وروحٌ منه، والجنةَ والنارَ حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل. متفق عليه (مشكاة ‏المصابيح حديث ٢٧ تحقيق الألبانى).‏

وروى أبو نعيم من حديث أبى الزبير عن جابر قال: "وسمعت رسول الله صلعم يقول: "لا ‏يُدخِلُ أحداً منكم الجنة عملُهُ، ولا يجيرُه من النار، ولا أنا، إلا بتوحيد من الله تعالى". إسناده على ‏شرط مسلم وأصل الحديث فى الصحيح (حادى الأرواح لابن قيم الجوزية الفصل التاسع عشر).‏

وعندما قرأت هذه الأحاديث تبادر إلى ذهنى سؤال: هل من العدل أن إنساناً قضى حياته فى ‏المعاصى والكبائر، ولم يفكر فى عمل أى خير يدخل الجنة، بينما يمضى آخَرُ إلى النار رغم أنه ‏قضى حياته كلّها فى عمل الخير؟!.. وأثناء قراءتى وجدت الحديث التالى الذى يجعل دخول الجنة ‏أوالنار تبعاً لما قُدِّر على الإنسان:‏

حدَّثنا رسول الله (صلعم): "إنّ خَلْقَ أحدِكم يُجمَع فى بطن أمه أربعين يوماً، وأربعين ليلة ـ أو ‏أربعين ليلة، ثم يكون عَلَقَة مثله، ثم يكون مُضْغةً مثله، ثم يَبْعَث الله إليه المَلَكَ، فيُؤذَنُ بأربع ‏كلمات: فيكتب رزقَهُ وأجَلَه، وعمله، وشقىّ أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فإنّ أحدكم ليعمل بعَمَلِ ‏أهلِ الجنة، حتى لا يكون بينها وبينه إلا ذراع، فيسبِقُ عليه الكتابُ، فيعمل بعمل أهل النار، فيدخُلُ ‏النار. وإنّ أحدكم ليعمَل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينها وبينه إلا ذراع، فيَسْبِق عليه الكتابُ، ‏فيعملُ عَمَلَ أهلِ الجنّة فيدخُلُها" (الأحاديث القدسية حديث١٠٠) رواه البخارى فى باب بدء الخلق ‏ج ٤، وباب القدر ج ٨، وكتاب التوحيد ج ٩.‏

ثانياً ـ الخلاص بالرحـمة وحـدها

[٢] ووجدت أحاديث أخرى تقول إن خلاص نفس الإنسان يتوقف على رحمة الله وحدها، حتى ‏أن نبى الإسلام يطلب رحمة الله وحدها، شأنه شأن أى إنسان آخر. ولا يمكن أن نبى الإسلام ‏يخلص من خطاياه ما لم تتداركه رحمة الله وتتغمده. فيقول حديث عن عائشة، قالت: يا رسول ‏الله! ما من أحد يدخل الجنة إلا برحمة الله تعالى؟ فقال: "ما من أحد يدخل الجنة إلا برحمة الله ‏تعالى" ثلاثاً. قلتُ: ولا أنت يا رسول الله؟!.. فوضع يده على هامته فقال: "ولا أنا، إلا أن يتغمدنى ‏الله برحمته" يقولها ثلاث مرات. رواه البيهقى فى "الدعوات الكبيرات" (مشكاة المصابيح حديث ‏‏١٣٠٥ تحقيق الألبانى).‏

ولقد تعلمت من هذا أنه لا يمكن لإنسان أن يحصل على الخلاص إلا أذا تغمده الله برحمته، ‏فطمأننى هذا الفكر. لكننى عدت أتساءل: إن كان الله رحيماً، فإنه أيضاً عادل. فإذا غفر الله ‏خطاياى برحمته وحدها فإنه بهذا يوقف عمل عدالته. وهذا يعنى وقف عمل عدالته. وهذا يعنى ‏وقف عمل صفة من صفات الله سبحانه. ولا شك أن هذا يُنقص من عظمة الله وكمالاته .‏

ثالثا ـ علا قة محمـد بالخلاص

[٣] أما الحقيقة الثالثة التى وصلت إليها من "الحديث" فهى أن نبى الإسلام لا يستطيع أن ‏يخلص أى إنسان، حتى ابنته فاطمة أو أهل بيته. وعلى هذا فقد وجدت أن شفاعة محمد فى ‏المؤمنين لاأساس لها، رغم أنى لوقت طويل كنت أؤمن أنها صحيحة. لقد قرأت الحديث التالى من ‏البخارى: ‏

من حديث أبى هريرة قال: قال رسول الله صلعم حين أُنزل عليه "وأنذر عشيرتك الأقربين":"يا ‏معشر قريش اشتروا أنفسكم من الله لا أُغْنى عنكم من الله شيئأ. يا بنى عبد المطلب، لا أُغْنى ‏عنكم من الله شيئأً. يا عباس بن عبد المطلب، لا أُغْنى عنك من الله شيئاً. يا صفية عمة رسول ‏الله، لا أُغْنى عنكِ من الله شيئاً. يا فاطمة بنت محمد سلينى ما شئتِ لا أُغْنى عنك من الله شيئاً" ‏‏(عن تفسير الطبرى للشعراء ٢١٤).‏

وهكذا وبعد دراسة ممتدة عميقة فى الأحاديث لم يبق لى جديد أكتشفه، فقد عرفت كل ما يمكن ‏أن يُعرف. وهكذا أغلقتُ كتب الحديث. ورفعتُ قلبى إلى الله أدعوه: "إلهى، يا من تعلم السر وما ‏خفى. منك المبدأ وإليك المنتهى. أشكو إليك ضعف قوّتى وقلّة حيلتى، وحيرة قلبى، وزيغة عقلى، ‏ووهن جسدى. اللهم، اهْدِ قلبى لدينك القويم وصراطك المستقيم، وافتح لى أبواب رحمتك يا أرحم ‏الراحمين. اللهم، إنى أسألك بكل اسم هو لك سَمّيْتَ به نفسك أو علّمته أحداً من خَلْقك أو استأثرت ‏به فى علم الغيب عندك، أن تبدّل خوفى أمناً، وحيرتى حقاً ويقيناً. اللهم، هذا جهدى وما أملك، ‏فاجعل منه حقاً أنتهى إليه ويقيناً أحيا به وأموت عليه. إنك سميع مجيب الدعوات".‏

طريـقُ المَسيحيّة للخــلاص

وفى هذه الحالة اليائسة بدأت اقرأ الإنجيل المقدس، وأنا أرجو أن أصلح الكثير من أخطائى. ‏فقرأت قول المسيح: "تعالوا إلىّ يا جميع المتعبين والثقيلى الأحمال وأنا أريحكم" (متى ١١: ٢٨) . ‏ولا أستطيع أن أصف مقدار فرحى بهذه الآية. لم أكن أفتش عنها قصداً، كما أنى متأكد أنى لم ‏أرها بالصدفة، لكن الله هو الذى أعطاها لى إجابة لصلاتى وبحثى وتفتيشى عن الحق. كانت هذه ‏الآية بالنسبة لى أنا الخاطئ إعلاناً بأخبار مُفرحة. لقد تركت الآية تأثيرها العظيم على نفسى ‏فمنحتنى السلام والراحة والفرح،‎ ‎وضاع منى فوراً كل إحساس بالضياع والقلق.‏‎ ‎إن المسيح يقول: ‏‏"أنا أريحكم" هذا يعنى أن الخلاص متوقف عليه. أنه لا يشير إلى طريق نسلكه لنجد الراحة، لكنه ‏هو نفسه الطريق، ثم قرأت بعد ذلك قوله: "أنا هو الطريق والحق والحياة. ليس أحد يأتى إلى ‏الآب إلا بى". (‏يوحنا ١٤: ٦).‏

ولكن سرعان ما داهم عقلى سؤال: هل يمكن أن يضع الإنسان ثقته فى هذا الوعد الضخم من ‏المسيح؟.. وجاوبت: إن الإنسان يمكن أن يجد راحته فى هذه الكلمات، لأن المسيح فى نظر ‏المسلمين كامل بلا خطية "وجيه فى الدنيا والآخرة" وهو "كلمة الله وروح منه". وهذه كلها تعلن ‏كمال المسيح. ثم أن المسيحيين يقولون إنه الإله الكامل، والإنسان الكامل الذى خلت حياته من كل ‏خطأ ورغبات أرضية. ولذلك فإن المسيح العظيم الكامل فى نظر المسيحيين والمسلمين لا بد ‏يمتلك من الإمكانيات ما يجعله قادراً على تحقيق وعده بالراحة لكل من يأتى إليه.‏

ثم بدأت أفكر فى مواعيد المسيح لى بالخلاص، فوجدت قول المسيح: "ابن الإنسان لم يأتِ ‏ليُخدَم بل ليَخدِم وليبذل نفسه فدية عن كثيرين" (متى٢٠: ٢٨). وعندما قرأت هذه الآية اكتشفت أن ‏المسيح يقدم للإنسان خلاصه، فقد بذل المسيح نفسه عن الخطاة، وهو الطريق العجيب الذى ‏لايمكن للعالم كله أن يقدم نظيراً له. ولقد أسّس كثيرٌ من البشر دياناتٍ فى عالمنا، ولكن لم يقل ‏واحد منهم إن موته سيكون سبب غفران الخطايا. المسيح وحده هو الذى قال عن نفسه هذه ‏الكلمات، وحققها فعلاً.‏

وعندما وصلتُ إلى هذه النتيجة امتلأت نفسى بالابتهاج الفائق الحد. وتركَتْ صورة المسيح ‏ومحبته فى قلبى تأثيراً بالغاً. وعندما كنتُ منتشياً بهذه الفرحة السماوية، داهم عقلى سؤال: ولكن ‏ما هى الحاجة إلى كفارة المسيح وتضحيته؟.. ألم يكن ممكناً أن يقدم الخلاص دون أن يموت؟.. ‏وجعلتُ أفكر فى هذا السؤال الجديد ووجدت له الإجابة. إن الله رحيم وعادل. فلو أن المسيح ‏وعدنا بالخلاص دون أن يبذل نفسه عنا، فإن مطالب الرحمة تكون قد ُوّفيت تماماً. لكن إن كان ‏الله يريد أن يوفى مطالب عدله، فلا بد أن يكون المسيح كفّارة عن كثيرين بدمه. وهكذا بيّن الله ‏محبته لنا. ثم وجدت فى الإنجيل هذا القول العظيم: "فى هذا هى المحبة: ليس أننا نحن أحببنا الله، ‏بل أنه هو أحبنا، وأرسل ابنه كفارة لخطايانا". (١يوحنا ٤: ١٠).‏

وظللت أفتش وأبحث فى العهد الجديد. قرأته عدة مرات من أوله إلى آخره، فوجدت مئات ‏الآيات وعشرات الأمثال التى تبرهن بغير ظلال من شك أن الخلاص موجود فى الإيمان بالسيد ‏المسيح، وهذا الخلاص يجب أن يكون هدف كل ديانة. فالإنجيل يقول:‏‎ ‎‏"ونحن نعلم أن كل ما تقوله ‏الشريعة إنما تخاطب به الذين هم تحت الشريعة، لكى يُسدّ كل فم، ويقع العالم كله تحت دينونة من ‏الله. فإن أحداً من البشر لا يتبرر أمامه بالأعمال المطلوبة فى الشريعة.‏‎ ‎إذ أن الشريعة هى لإظهار ‏الخطيئة. أما الآن فقد أُعلن البر الذى يمنحه الله مستقلاً عن الشريعة، ومشهوداً له من الشريعة ‏والأنبياء. ذلك البر الذى يمنحه الله على أساس الإيمان بيسوع المسيح، لجميع الذين يؤمنون. إذ لا ‏فرق، لأن الجميع قد أخطأوا وهم عاجزون عن بلوغ ما يمجد الله. فهم يُبَرّرون مجاناً بنعمته ‏بالفداء بالمسيح يسوع، الذى قدمه الله كفّارة عن طريق الإيمان وذلك بدمه" (رومية ٣: ١٩—٢٥).‏

قـرارى واعتـرافى

بناءً على ذلك، وبعد أن أكملت تفتيشى وبحثى كما وصفته هنا، وصلت إلى نتيجة أنى يجب أن ‏أعلن مسيحيَتى. ووجدت أنه من واجبى أن أعرّف الجمعيّة التى أنتمى إليها بما وصلت إليه، ‏ليفكروا فيه، ثم أكون حراً فى متابعة دراساتى علناً، فذهبت إلى الاجتماع كالعادة. وكان موعد ‏مونشى منصور مسيح ليتكلم. ولكنى قاطعته قائلا: "فى هذه المناسبة يجب أن أبدأ أنا بالكلام ضد ‏الإسلام". ثم بدأت أعلن نتيجة دراسة السنوات التى قضيتها فى البحث.‏

واندهش المسئولون عن الجمعية من كلماتى، ولكنهم كانوا ينتظرون أن أنفى كل ما بدأت ‏بقوله. وعندما انتهيت من الكلام وجلستُ وقف نائب الرئيس وقال: "نرجو أن الرئيس نفسه يهدم ‏ما قاله ويصحح الأخطاء التى قدمها فى حديثه". فوقفت مرة أخرى وقلت: "أرجو أن تستمعوا إلىّ ‏يا أصدقائى، فإنّ ما وضحته ليس شيئا سطحيّاً، ولا مُختلفاً، ولكنه قرار أكيد وقاطع، بنيتهُ على ‏سنوات من البحث. ولأكون واضحاً فلقد بدأ بحثى فى ذلك اليوم الذى قال فيه السيّد مونشى ‏منصور مسيح إننا يجب أن نبحث موضوع الخلاص. ففى ذلك الوقت وعدت الله أنى سأقرأ ‏الكتاب المقدس، لا كما كنت أقرأه من قبل: للإنتقاد والهدم، إنما لأفتش فيه عن الحق، حتى يعلن ‏الله لى طريق التبرير. فأزحت جانباً تعصُّبى وفلسفتى، وجعلت أقارن الأفستا واساتيارث براكاش ‏والكتاب المقدس والقرآن، ووصلت إلى أن الخلاص موجود فى المسيح وحده. وهذا كل ما ‏أستطيع أن أقوله، فإن كان فى بحثى نقص، فإنى أكون شاكراً لكم أيها السادة لو بيّنتموه لى. وإن ‏كنتم تريدوننى أن أسحب ما قلته فإنى أعلن أن لا رجوع عما قلته. ولست أظن أن واحداً منكم ‏يستطيع أن يهدم ما وصلت أنا إليه".‏

وتركت الاجتماع لأنه لم يكن من الحكمة أن أبقى، فتبعنى فوراّ السيد مونشى واحتضننى. ‏وسالت دموع الفرح من عينيه وقال بصوت مرتعش: "يجب أن تأتى معى، فليس من الأمان أن ‏تقضى الليلة بمفردك فى حجرتك". فجاوبته: "إن أعضاء الجمعية من المسلمين المثقفين، ولست ‏أخشى بطشهم". ثم قلت: "ولو أن هناك غيرهم ممن أخاف حماقتهم. سأجىء إلى بيتك مع طلوع ‏الصباح. فإذا تأخرتُ عن ذلك، فأرجوك أن تأتى إلى غرفتى لتفتش عنى". ودخلت غرفتى ‏وأغلقت الباب من الداخل وأطفأت النور، وجلست غارقاً فى أفكارى. وكانت ليلة امتحان. واتّضح ‏أمامى أنى وقد صرت مسيحياً خسرت بلدى وجيرانى وحقوقى وأصدقائى. خسرت كل شيء. ثم ‏أنى سأدخل المجتمع المسيحى المختلف عنى فى العادات والتقاليد وكل شىء. دارت كل هذه ‏الأفكار فى رأسى، فكان من المستحيل أن أنام.‏

وأخيراً قلت لنفسى: "يا سلطان، عليك أن تذكر أنك ابن الساعة التى أنت فيها، وأن العالم كله ‏باطل فانٍ. وعندما ستموت لن ينفعك بلدك ولا ميراثك ولا عائلتك ولا أصحابك. فكل هؤلاء ‏ينتمون إلى العالم الحاضر، ولن يبقى معك شىء أو شخص تمضى به إلى ما وراء القبر إلا ‏إيمانك المبنى على أساس عمل المسيح. فلا يجب أن تترك الحياة الأبدية والسعادة الروحية من ‏أجل فترة انتقالية".‏

وعندما ركعت لأصلى قلت: يا مالك الملك، يا مبدع الخلق، إليك سلّمت وجهى، فتقبّل منى ‏واغفر لى وارحمنى. ربنا، إنك تعلم ما نخفى وما نعلن. ربنا لا تجعل الدنيا أكبر همى وغمى، ‏ولا تجعل فتنتى فى دينى.. أنت ملجئى وملاذى، بك أستعين وأستعيذ من كل ضعفٍ يحول بينى ‏وبين الإيمان بابنك الوحيد يسوع المسيح ربنا. يا من قلت، وقولك الحق "تعالوا إلىّ يا جميع ‏المتعبين والثقيلى الأحمال وأنا أريحكم" يا من وعدت ووعدك الصدق "اقرعوا يُـفتح لكم" إلهى ‏أدعوك وأنا موقن بأنك سميع مجيب الدعوات، فتقبل منى صلاتى مشفوعة بدم مخلصنا الحبيب".‏

وبعد أن انتهيت من الصلاة شعرت بالحاجة للنوم فنمت وقتاً قليلاً. وعندما استيقظت وجدت ‏السعادة والفرح يغمران قلبى، وزال كل أثر للقلق وعدم الارتياح. وعندما بدأت تباشير الصباح ‏أسرعت لأغتسل، وذهبت إلى بيت مونشى منصور مسيح، فوجدته مشغولاً علىّ. وكان قد جهّز ‏الشاى لنشربه معاً. فتحدثنا بعض الوقت، ثم صرفنا فرصة فى الصلاة، بعدها ذهبت إلى بيت ‏القس لاجيارد. واندهش القسيس من وصولنا مبكرين، فأوضح مونشى أننا نمزح. لكن عندما سمع ‏بما حدث فى الليلة السابقة احتضننى فوراً وقال: "كنت أعلم أنك تدرس الكتاب المقدس بحماس ‏ونشاط، ولا بد أنك ستصبح مسيحياً. فنشكر الله الذى أقنعك". ووعد أن يعمدنى بعد ثلاثة أيام. ‏وطلب منى أن أبقى مع مونشى.‏

وعندما جاء يوم الأحد امتلأت الكنيسة بالمسلمين، ولاحظ القس لاجيارد الخطر المحيط بى، ‏فقرر تأجيل المعمودية. وأخيراً بنعمة من الله عمدنى صباح يوم ٦ أغسطس ١٩٠٣م. فى كنيسة ‏القديس بولس فى بومباى. وبعد معموديتى سافرت إلى كانبور، فقد كان بقائى فى بومباى خطراً ‏على حياتى.‏

وجرى داخلى تغيير رائع عندما صرت مسيحياً. تغيّرت طريقة كلامى وأفعالى وكل أسلوب ‏حياتى حتى أننى عندما زرت بومباى بعد سنة من ذلك اندهش أصدقائى المسلمون مما جرى ‏معى. اندهشوا من رقّتى لأنهم كانوا يعلمون سرعة فقدان أعصابى.‏

قبل أن أصبح مسيحياً كنت أعرف أنّ الخطية معصية. لكن لم أكن أدرك (كما أدرك الآن) أثر ‏الخطية المدمر على الإنسان كله. ومع أنى لا زلت إنساناً ضعيفاً، مجرد حفنة تراب، إلا أنى ‏عندما أخطئ ينتابنى الأسى على ما أفعل، وأخرّ على وجهى أمام الله بدموع عينىّ تائباً طالباً ‏الغفران. أما أساس هذا الموقف من الخطية فهو معرفتى عن عمل المسيح الكفارى من أجل ‏خطيتى. إن التوبة وحدها لا تستطيع أن تزيح الخطية، بل يجب أن أتطهر بدم المخلص الكريم. ‏ولذلك ألاحظ أن عالمنا الذى يأخذ الخطية مأخذاً سهلاً يعرّض نفسه، ويقترب شيئاً فشيئاً من ‏الدمار.‏

ومع أن الشيطان يحاربنى بكل طاقته، إلا أنى لا أرتبك، لأنى أعلم أن المسيح قد سحق رأس ‏الشيطان، فلا يقدر أن يؤذى أو يغلب أتباع المسيح الأمناء. وإنى أدعو الرب مالك السموات ‏والأرض، وفاحص القلوب، أن يُرجع قلوب البعيدين إليه، وأن يريهم رعب اليوم الآخِر، ‏واحتياجهم العظيم للخلاص، فيُقبلوا إلى المسيح مخلصهم، القادر وحده أن يخلّص إلى التمام.‏