١٧٤ معجزة القرآن

أولا : نبوءة ظهور الاسلام على الدين كله

جاء الوعد بظهور الاسلام " على الدين كله و لو كره المشركون " فى ( الفتح 18 ، الصف 9 ، التوبة 34 ) . فهل فى هذا الوعد نبوءة من علم الغيب ، أم انه اسلوب بيانى ؟

من يرى فى هذا الوعد نبوءة من علم الغيب يصطدم بالتاريخ و بواقع حال العرب و المسلمين . إنى عربى و يؤلمنى ما أقول ، لكن الحقيقة أن يعرف الانسان نفسه . فإلى اليوم لم يتغلب الاسلام على المسيحية ، و لا على الهندوكية ، و لا على البوذية . إن الواقع البشرى فى الاديان مائل للعيان : فليس فى وعد القرآن من نبوءة ! و من أصر على أنها نبوءة جعل الواقع يكذبها .

و ليس فى قوله " ليظهره على الدين كله " وعدا للمستقبل . بل هو أسلوب بيانى من باب التعميم فى معرض التخصيص . و هذا التخصيص ظاهر من قرينة " و لو كره المشركون " ، هو اصطلاح فيه للعرب الذين يخاطبهم .

و نعرف من ( اسباب النزول ) ان حقيقة الوعد تسجيل لواقع يتحقق فى الجزيرة العربية . و جاء هذا التسجيل بعد انتصار جماعة محمد على اليهودية فى شمال الحجاز ( الفتح 18 ) ، و على المشركين فى مكة ( الصف 9 ) ، و على المسيحية العربية فى مشارف الشام ( التوبة 33 ) . و لا ننس ابدا أن الآيات القرآنية كانت تنزل بعد الاحداث لتسجيلها و استخلاص عبرها .

فالوعد بظهور الاسلام " على الدين كله " مقصور على الجزيرة العربية . و هو حادث مشهود ، لا غيب موعود .

و ليس فيه من عناصر النبوءة المعجزة شىء : فليس خارقا للعادة فى نشأة الاديان و انتشارها ، و لا تحدى فيه لغير العرب المشركين ، و لا هو سالم عن المعارضة بسيطرة غيره من الأديان على العالم .

فالوعد تسجيل واقع مشهود فى الجزيرة العربية .

ثانيا : استخلاف المسلمين فى الأرض

جاء فى قوله : " وعد الله الذين آمنوا منكم و عملوا الصالحات ، ليسخلفنهم فى الأرض ، كما استخلف الذين من قبلهم ، و ليمكنن لهم دينهم الذى ارتضى لهم ، و ليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا " ( النور 55 ) .

معجزة القرآن ١٧٥

فهل هذا الوعد نبوءة للمستقبل من علم الغيب ؟ أم أنه حادث مشهود يتم فى جزيرة العرب ؟

تلك الآية من سورة ( النور 55 ) نزلت فى غزوة بنى المصطلق ، فى شعبان سنة ست ه ، أى فى مطلع العام 628 م . و كانت تلك الغزوة بعد هزيمة احزاب قريش فى غزوة الخندق ، شوال سنة خمس ه أى فى آذار عام 627 م ، و بين صلح الحديبية فى آخر السنة السادسة ه ، أى فى آذار عام 628 م .

لقد ذهب الخوف على المصير فى فشل مشركى قريش بغزوة الخندق . و ساد الأمن المسلمين الذين يجهزون لحملة الحديبية ، فى غزوة سلمية لمكة بحجة الحج .

و هذا التصميم على اقتحام مكة ، و الرضى بصلح الحديبية مع صناديد قريش ، دليلان على تصاعد سلطان المسلمين فى الحجاز ، حتى سمى القرآن صلح الحديبية " فتحا مبينا " ( الفتح 1 ) .

فتلك الظروف التاريخية لا تجعل الوعد بالاستخلاف " فى الأرض " – أى فى الحجاز – نبوءة غيبية عن مصير مجهول لا يعلمه إلا الله . إنها تسجيل واقع ببلوغ المسلمين قوة النصارى و اليهود فى الحجاز . فمن يقتحم مكة ، و يرضى منها مرغمة بالصلح ، لا يجهل سلطان جماعته و مصيرهم الآخذ فى السيطرة على الحجاز .

و كل قائد يأتى بمثل هذا التحريض فى أحرج الأوقات على جماعته . فاستخلافهم فى الحجاز كاستخلاف أهل الكتاب فيه ، أمر مشهود يتم أمام عيونهم .

فليس هذا الوعد ، فى واقع الحال ، نبوءة غيبية . و لا يصح ذلك لأنه ليس أمرا خارقا للعادة ، مقرونا بالتحدى ، سالما عن المعارضة . فاستخلاف المسلمين فى أرض الحجاز ، مثل النصارى و اليهود ، واقع مشهود بعد اندحار المشركين فى غزوة الخندق ، و رضوخهم الى الصلح فى معاهدة الحديبية .

إن أسلوب التعميم و التجريد فى التعبير ، بعيدا عن ( أسباب النزول ) يوهم الخطأ فى تحميل القرآن ما لا يحمله من علم الغيب .