١٧٨ معجزة القرآن

تكون مجهولة الزمان و المكان ، مجهولة المصير ، يجرى التاريخ بخلافها . فقد " قال أصحابه : أين رؤياك ، يا رسول الله " ؟

فكل القرائن القرآنية و التاريخية تمنع من أن نرى فى " رؤيا " المنام نبوءة غيبية . و لو رأى القرآن نفسه فيها أمرا خارقا للعادة ، لتحداهم به ، كلما تحدوه بمعجزة ! فهذه " الرؤيا " ، مثل " الوعد " بنصر بدر ، كلها أساليب تحريض على الجهاد ، لا أسلوب نبوءة من علم الغيب .

خامسا : الوعيد بهلاك كفار مكة

هذا نصه : " قل للذين كفروا : ستغلبون و تحشرون الى جهنم ، و بئس المهاد ! قد كان لكم آية فى فئتين التقتا ، فئة تقاتل فى سبيل الله ، و أخرى كافرة ، يرونهم مثليهم رأى العين . و الله يؤيد بنصره من يشاء . إن فى ذلك لعبرة لأولى الأبصار " ( آل عمران 12 – 13 ) .

هذا وعيد بهلاك كفار مكة ، فهل فى ظروف الحال ، أم فى تحقيقه ، ما يجعله نبوءة غيبية ؟

الوعيد من بعد نصر بدر الذى تذكره سورة ( الأنفال ) . و القرآن يعطى على صحة الوعيد برهانا " العبرة " بنصر بدر . فليس الهلاك المذكور هو موقعة بدر ، انما هو بنصه القاطع حشر كفار مكة فى جهنم . و هذا لا يقدر أن يتحققه المسلمون على الأرض ، فليس فيه معنى التحدى بالاعجاز ، ليكون نبوءة غيبية . و العبرة بنصر بدر أسقطتها هزيمة أحد من بعدها .

ووعيد كفار مكة بجهنم سقط بإسلام أهل مكة . و النبوءة الغيبية لكى تكون كذلك ، يجب أن تقترن بالتحقيق . جاء فى التوراة عن صحة النبوءة الغيبية : " فإن تكلم النبى باسم الله ، و لم يتم كلامه ، و لم يقع ، فذلك الكلام لم يتكلم به الله " ( التثنية 18 : 22 ) . و نبأ لا يتم ، و يعترض ما يمنع تحقيقه ، لا يكون نبوءة غيبية ، انما هو وعيد من باب الترهيب ، لا من باب علم الغيب .

معجزة القرآن ١٧٩

سادسا : دعوة المسلمون الى قتال الفرس و الروم

جاء قوله : " ستدعون الى قوم أولى بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون " ( الفتح 16 ) . هل فى هذا النص خبر عن قتال موعود للفرس و الروم ، و الانتصار عليهم ؟

إنه يأتى فى سورة ( الفتح 16 ) تحريضا على غزوة خيبر و معاقل اليهود فى الشمال ، كما يتضح من سياق النص ( الفتح 15 – 19 ) . فظاهر النص أن " القوم أولى البأس الشديد " هم يهود الشمال فى معاقلهم . فليس هو نبوءة غيبية ، بل تسجيل واقع الحال .

و قد تكون الآية ( الفتح 16 ) من زمن غزوة تبوك ، كما يدل عليه مضمونها و مضمون سورة التوبة ( 90 – 106 ) . دعاهم إلى تأديب النصارى العرب الموالين للروم فى مشارف الشام . فكانت غزوة مؤتة الفاشلة ، ثم غزوة تبوك المتعسرة التى انتهت بصلح مشروط . و لو كان فى التحريض على قتال العرب النصارى فى مشارف الشام معنى النبوءة الغيبية ، لما تقاعس الاعراب أهل الغزو عن المسيرة ، فنزل فيهم : " و الاعراب أشد كفرا و نفاقا ، و أجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله ، و الله عليم حكيم " ( التوبة 97 ) . فالنبأ أمر مشهود فى غزوة تبوك ، لا أمر موعود من علم الغيب .

فليس فى الآية . و لا فى قرائنها ، معنى دعوة المسلمين الى قتال الفرس و الروم ، و الانتصار عليهم . إنهم يحملون النص ما لا يحمله ، ليجدوا فيه نبوءة غيبية .

سابعا : تهديد المتخلفين عن غزوة تبوك

يرون نبوءة غيبية فى قوله : " فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله ... فإن رجعك الله الى طائفة منهم ، فاستأذنوك للخروج ، فقل : لن تخرجوا معى أبدا ، و لن تقاتلوا معى عدوا ، إنكم رضيتم بالقعود أول مرة ، فاقعدوا مع الخالفين " أى المتخلفين عن الغزو ( التوبة 81 و 83 ) . قال الباقلانى : " فحق ذلك كله و صدق ، و لم يخرج من المخالفين الذين خوطبوا بذلك معه أحد " .

لكن فات الباقلانى و أمثاله أن الرسول نفسه لم يخرج الى غزوة البتة بعد تبوك ، فهى آخر غزوات النبى ، انتقل بعدها الى الرفيق الأعلى . هذا الواقع ينقض معنى النبوءة