١٢٠ الفصل التاسع

وهو ، مع ذلك ، مُدرَك بالحس11.

فيتضح من هذه المقابلة أن يحيى كرّر نفس الفكرة ، بشئ من الإيجاز ، بعد أن عدّل الأسلوب ليناسب غرض المسألة . وذلك بعد ثلاثين عاما . مما يؤكد أن "المقالة في التوحيد" هي الأساس الذي بني عليه فيما بعد كثيرا من مقالاته .

* * *

وكذلك ، في الإجابة عن السؤال الفرعي الثاني (من السؤال الأول) ، يقول :
"وأما السؤال عن "كيف يكون علمُه بها12؟" ، فالجواب عنه أنه بأن تُحصّلَ صُوَرُها (وهي ما يدل عليه حدودها ، أو الأقاويل الواصفة لها) في ذات العالِم بها ؛ كما قد بيّنا ذلك في مقالتنا ، التي بيّنا فيها كيفية وجود [كذا] التأنس13. وهو كوجود صُوَر ما يقابل المرايا"14.

فيعتمد إذن يحيى ، في هذا القسم من إجابته ، على "المقالة في وجوب (أو : وجود) التأنس"15 التي ذكرناها آنفا ، لا سيما الجزء الثاني منعا الذي يبيّن فيه إمكان اتحاد البارئ تعالى بالإنسان16. وقد رأينا أن هذه المقالة تعتمد ، في هذا الجزء ، على مقالتنا في التوحيد . فينتج أن يحيى يعتمد ، هنا أيضا ، على "المقالة في التوحيد" التي ألّفها قبل ثلاثين سنة .

ثانيا – "المقالة في التوحيد" مدخل فلسفي إلى علم التثليث

إذا قارنّا "المقالة في التوحيد" بالرد على الكندي ، فهِمْنا أهمية مقالتنا وميزتها .

1 – المقالة في التوحيد مقالة فلسفية محضة

فالرد على الكندي كتاب دفاعي ، وقد يستعمل فيه يحيى أحيانا أسلوبا هجوميا . بينما "المقالة في التوحيد" عَرْضٌ هادئ لنظريات فلسفية .


11) "التوحيد" رقم 366 – 368 .
12) أي : "كيف يكون علم البارئ بالجزئيات ؟" .
13) وفي مخطوط البطريركية القبطية : "العالم" ، وهو تصحيف . أما في مختصر ابن العسال ، فلا توجد هذه الجملة .
14) راجع حاشية 51 ، ورقة 64 ﺠ .
15) طبع بيرييه
PERIER هذه المقالة ، مع ترجمة فرنسية . راجع "مقالات يحيى بن عدي" ص 69 – 86 .
16) راجع "مقالات يحيى بن عدي" ص 74/3 – 83/7 . أما الإشارة إلى المرايا ، فها هي : "وكذلك جميع الأشياء المقابلة للمرايا تعطي المرايا صورها ، فتتصور المرايا بها . فيرى المستدبرون للأشياء المقابلة للمرايا [وقد سقطت هذه الكلمة في الطبعة ، واستعدناها من مخطوط الفاتيكان عربي 134 ورقة 30 ظ 4] ، المستقبلون للمرايا ، صُوَرَها كلها..." (ص 73/2 – 4) .
مكانة "المقالة في التوحيد" في فكر يحيى بن عدي ١٢١

و"الرد على الكندي" دفاع عن التثليث ، وعن مذهب النصرانية . لذلك تكثر فيه الألفاظ المسيحية ، مثل "الآب والابن والروح القدس" ، ولفظة "النصارى" ، والألفاظ اللاهوتية مثل "أقانيم" ، الخ . أما "المقالة في التوحيد" فلا تمس موضوع التثليث ، فهي بحث فلسفي محض .

لذلك ، لا تجد "الرد على الكندي" وبقية المقالات اللاهوتية ، إلا في المخطوطات المسيحية . بينما رأينا ، في الفصل الرابع من هذا البحث ، أن "المقالة في التوحيد" وصلت إلينا عن طريقين مستقلين : أحدهما إسلامي فارسي ، والآخر مسيحي قبطي .

فالرد على الكندي بحث لاهوتي يعتمد على الفلسفة . بينما "المقالة في التوحيد" بحث فلسفي ذو هدف لاهوتي ، يعرض فيه المؤلف معاني الواحد عرضا مستفيضا ، ثم يحاول تحديد المعنى (من هذه المعاني العديدة) الذي يصح تطبيقه على البارئ تعالى .

وإن كان المؤلف قد توصّل إلى أن معنى الواحد في البارئ هو ما كان واحدا من جهة وكثيرا من جهة أخرى ، إلا أن هذه (في نظره) حقيقة فلسفية يتوصل إليها ضرورة كل من تبع طريقة أرسطوطاليس .

2 – المقالة في التوحيد تعتمد على أرسطو ومفسريه

ذكرنا ، في صدر هذا الكتاب ، رأي المستشرق بيرييه ، حيث يقول : "إنه من الممكن مقابلة كل جملة من المقالة في التوحيد بجملة تقابلها مستمدة من كتاب "ما بعد الطبيعة" لأرسطو ، أو من كتاب "السماع الطبيعي" له"17.

وقد أشرنا إلى بعض هذه المراجع الأرسطوطالية في الحواشي التي وضعناها على نص يحيى بن عدي18. ولا شك أن الأخصائيين يستطيعون إضافة عشرات المراجع على تلك التي ذكرناها .

أما الآن ، فنريد الإشارة إلى ظاهرة أخرى . وهي تأثير مفسري أرسطو (لا أرسطو فقط) على يحيى بن عدي . بل نعتقد أن يحيى قرأ أرسطو من خلال هؤلاء المفسرين ، لا سيّما يحيى النَحْوي والإسكندر الأفروديسي . نضرب هنا مثالين على ذلك ، للدلالة على أهمية مفسري أرسطو في فكر يحيى بن عدي .

أ – في رقم 161 ، عندما أراد يحيى أن يعطي مثلا على "الواحد بالحد" ، قال :


17) راجع PERIER ص 123 . وقد ذكرنا النص الفرنسي في التصدير ، ص 22 حاشية 12 .
18) راجع الحواشي على نص يحيى ، رقم 8 و 149 و 150 و 151 و 152 و 177 و 180 و 253 .