- ١٤ -

إدراكها تمام العجز لعدم وجود مثيل لها فى هذه الدنيا المنظورة. وحتى لو أعلن الله لشعبه هذه النقط وتلك الأسرار الغير المدركة فلا يمكن للإنسان فهمها بل وغير ممكن لنا ما دمنا فى هذا العالم أن نرى تلك الأسرار واضحة وجلية إذ لا نرى لها مشابهات تقربها إلى فهمنا. مثلاً إنساناً مولوداً أعمى فهو بالطبع لا يفقه لنور الشمس معنى فإذا اجتهدنا بكل قوانا أن نصف له الشمس ونورها فغالباً لا يفهم الشرح ولا يدرك الشمس ولا نورها ولا قوة البصر فى الآخرين. إلا أنه بما له من الحواس الأخرى ربما يمكنه أن يتصور شيئاً ضعيفاً جداً عن ماهية الشمس ونورها لكن لو أنكر بسبب عماه وجود حاسة البصر فى غيره وأنهم يرون شيئاً لا يراه فهل يحسب إنكاره ذكاء مفرطاً؟ كلا بل هو عين الجهل ومع هذا فجهله وعناده لا يبررنا إذا تركناه فى خطر محيق به ولا نرشده إلى الطريق المستقيم.

واضح أن ذات الله المقدسة الغير المنظورة لا شبيه لها فى الوجود ولذلك من الصعب علينا أن ندرك حتى معنى كلام الله فى هذا الموضوع. ولكن لو لم تكن هذه المعرفة ضرورية لما كان الله إله الحكمة والمعرفة أعلنها لنا فى كتابه. ولكن حيث أن هذا التعليم الموجود فى الكتاب المقدس عن لاهوت المسيح وعن سر الثالوث

- ١٥ -

الأقدس فى توحيد الذات الإلهية قد أعلنه الله على فم أنبيائه فهو نافع لنا جداً ولازم لنا تعلمه. لا شك أن هذه الأسرار الإلهية فوق إدراكنا المحدود ولكن لا يجب أن يكون هذا سبباً فى تصورنا أنه يخالف العقل. إن ذلك لا يمكن أن يكون لأن معلن هذه الأسرار هو الإله العظيم موجد العقل وخالقه. إن أنكر الإنسان هذه الأسرار بحجة أن العقل عاجز عن إدراكها فهو يشبه رجلاً أعمى ينكر وجود الشمس لأنه لا يراها ولا يمكنه فهم معناها. إن ذلك الذى ينكر الأشياء التى يعجز عن إدراكها عقله ويرفض كلام الله المقدس الذى هو فوق إدراكه يفضل عقله وعلمه على كلام الله تعالى. ذلك الإنسان بغطرسته وكبريائه يضع نفسه فى مقام أعلى من مقام الله العلى العظيم وقد أغواه الشيطان ووسوس له أن الله ليس بأعظم منه فى الحكمة والمعرفة حتى يعلن كلاماً يعجز عن إدراكه الإنسان ( وقانا الله من شر هذا الكفر المبين ).

إن فى العالم أمور كثيرة لا يقدر الإنسان على إدراكها فهل ينكرها ولا يؤمن بها لأنه لا يدركها ؟ أن مثله يكون مثل ذلك الفيلسوف فى الزمن القديم الذى ظن أنه حاز كل الحكمة فى قوله ( إنى لا أعرف شيئاً قط حتى أنى لا أدرى أنى لا أعرف ). فهو غير شاعر