١٥٠ معجزة القرآن

فى فصل أول يفصل " تاريخ الكلام فى القرآن " ( ص 160 ) . فكانت أول مقالة بخلق القرآن للبنانية أو البيانية . و تلقفتها الجعدية " فأضافت الى القول بخلقه أن فصاحته غير معجزة ، و أن الناس يقدرون على مثلها و على أحسن منها " . نجمت مقالة الجعد بن درهم مؤدب مروان بن محمد ، آخر خلفاء بنى أمية ، فى دمشق فأخذها عنه الخليفة نفسه ( ص 161 ) . و فى مطلع العهد العباسى بلغ التطرف قمته . فكانت " الرافضة " و على رأسهم الحكمية ، جماعة هشام بن الحكم " يزعمون ان القرآن بدل و غير و زيد فيه و نقض منه و حرف عن مواضعه " . " أما إنكار أشياء من القرآن نفسه ، على أنها ليست منه ، فقد وقع لبعض الغلاة ، كالعجاردة ، الذين ينسبون الى عبد الكريم بن عجرد ، فى أواخر المائة الأولى . فإنهم ينكرون أن سورة يوسف من القرآن لأنها قصة ، زعموا " ( ص 161 ) .

و ممن أنكر الاعجاز فى القرآن أيضا " الحسينية ، أصحاب الحسين بن القاسم العنانى ، الذين يزعمون أن كتبهم و كلامهم أبلغ و أهدى و أبين من القرآن " ( ص 169 ) .

" و أشدهم بعد الجعد بن درهم ، عيسى ابن صبيح المزدار ، و أصحابه المزدارية " ، " يقولون إن القرآن غير معجز ، لا بقوة القدر ، و لا بضعف القدرة " . " و قد زعم أن الناس قادرون على مثل القرآن فصاحة و نظما و بلاغة " ( ص 168 – 169 ) .

و ظهرت المعتزلة فحاولوا الجمع بين قول العامة و قول الخاصة ، فنادت النظامية " بأن الاعجاز كان بالصرفة ، و هى ان الله صرف العرب عن معارضة القرآن ، مع قدرتهم عليها . فكان هذا الصرف خارقا للعادة . قلنا : و كأنه من هذا القبيل هو المعجزة ، لا القرآن " ( ص 162 ) .

و الجاحظ ، مؤسس الجاحظية ، كان على رأيين مختلفين . فكان أول من ألف " نظم القرآن " لبيان إعجاز بيانه الذى جعله فى لفظه و نظمه – و هو القول الحق الى اليوم . لكنه تستر وراء مقالته بخلق القرآن و عدم اعجازه بالقول المشهور عنه : " ان القرآن جسم يجوز أن يقلب مرة رجلا و مرة حيوانا ، أو مرة رجلا و مرة أنثى " ( ص 165 ) .

و اختلف القوم حتى اليوم فى وجه الاعجاز . فنادى أهل الاعجاز فى كتبهم على اختلاف بينهم أنه الاعجاز البيانى ، مثل الواسطى و الرمانى و الباقلانى و الجرجانى و الخطابى و الرازى و ابن أبى الأصبع و الزلكانى ، مدة ثلاثماية سنة ، على اختلاف فى وجه الاعجاز .

معجزة القرآن ١٥١

مع ذلك " فشت مقالة بعض المعتزلة بأن فصاحة القرآن غير معجزة " . و لجماعة من المتكلمين و أهل التقسيمات المنطقية ، على اختلاف بينهم ، شبه و مطاعن يوردونها على القرآن ، و هى نحو عشرين وجها " ( ص 167 ) .

و على الجملة فأهل السنة و الجماعة يقولون بإعجاز القرآن البيانى . أما المعتزلة عموما فيقولون : " ان الله لم يجعل القرآن دليلا على النبوة " . و الذين يقولون بالاعجاز ، فهم على خلاف فى وجه الاعجاز فيه . فقضية الاعجاز القرآنى مختلف فيها . و ما أختلف فيه لا يصح أساسا للعقيدة . و سنرى أن القرآن لا يعتبر إعجازه معجزة له .

 لكن الرافعى غالى على كل من سبقه فقال بالاعجاز المطلق فى القرآن ، " و انه معجز من كل الوجوه " ، " و انما مذهبنا بيان اعجازه فى نفسه ، من حيث هو كلام عربى " ( ص 176 ) . مع ذلك وجه الاعجاز عنده ان " أسلوب القرآن " ( ص 213 ) " مخالف لكل الأساليب " ، و هذه هى الناحية الأولى من اعجازه . الناحية الثانية ، " سر الاعجاز فى النظم " أى فى تركيب الحروف و الكلمات و الجمل ( ص 238 ) : إعجاز النظم الموسيقى فى الحروف و أصواتها ( ص 241 ) و فى الكلمات و حروفها ( ص 249 ) بأصوات ثلاثة مجتمعة : صوت النفس و صوت العقل و صوت الحس ، و فى الجمل و كلماتها ، " بنظم القرآن صورة واحدة من الكمال ، و ان اختلفت أجزاؤها فى التركيب ، بذلك التناسب البديع فى الترتيبات و الروابط من ربط كل كلمة بأختها ، و كل آية بضريبتها ، و كل سورة بما إليها . " و هو علم عجيب أكثر منه الإمام فخر الدين الرازى فى تفسيره " ( ص 277 ) . ذلك هو الاعجاز فى التركيب و التأليف ،و غرابة أوضاعه التركيبية هى شطر الاعجاز فى القرآن ( ص 283 ) ، و هى الناحية الثالثة منه : " كتاب واحد يستوفى وجوه البلاغة " ، أى الاعجاز بسياستى البيان و المنطق ، أو ما يقال له فى العرف : البيان و البلاغة ( ص 291 ) . و الناحية الرابعة منه هى وجه اعجازه البيانى : " الطريقة النفسية فى الطريقة اللسانية " ( ص 277 ) . و الناحية الخامسة هى وجه اعجازه البلاغى ، على سبيل الخطاب و الجدل ، لا على سبيل البرهان المنطقى إلا ما ندر ( 299 ) . و هذا الوجه كان أول من نبه اليه الفيلسوف ابن رشد . 1


1 " و قد استخرج الإمام الغزالى ( المنطق ) من القرآن " ( ص 300 ) ، و أيده ابن رشد بأن أسلوب القرآن يقوم على