١٦٦ معجزة القرآن

27 ) . لقد بحثنا نظرية السيد طبارة . هنا نتوقف على هذه المقالة ، تتميما لفلسفة أهل العصر فى النبوة و المعجزة .

إن كتب الأدب لا تعرف لعرب الجاهلية سوى الشعر الغنائى ، و تجهل عندهم الشعر الملحمى و المسرحى . و لا تذكر لهم من الخطابة ما يستحق الذكر . ناهيك عن سائر الفنون الأدبية . و هذا الواقع لا يقاس أبدا بما كان فى أثينة و رومة و الاسكندرية و أنطاكية . فلم ينبع العرب فى الاعجاز البيانى و البلاغى ، قبل القرآن ، الى بعض ما نبغت فيه تلك العواصم ، فى عهدها الوثنى كما فى عهدها المسيحى .

و هل يقاس الأدب الجاهلى بما فى الكتاب القدسى من تشريع و تاريخ و شعر و خطابة و قصص و ملحمة ، حتى ندعى أن بنى قومنا فى جاهلية الحجاز نبغوا فيه أكثر من بنى عمومتهم ؟

و السيد طبارة يناقض نفسه حتى يزعم للقرآن معجزات علمية لم يكتشفها فيه العرب قبل القرن العشرين : فهل نبغوا فى العلوم الكونية حتى تكون هذه المعجزات العلمية " من جنس ما نبغت فيه أمته " !

وهب أن السيد طبارة يتكلم عن العرب وحدهم و نبوغهم فى فن الكلام : فهل اعجاز بيانى و بلاغى فى خطابهم ، يكون معجزة للعالمين ؟ و سنرى أن القرآن لا يعتبر اعجازه معجزة للعالمين ، و لا للعرب الكتابيين .

10 – هل من " المستحيل أن تخلو سيرة النبة من معجزات تشهد له " ؟

لقد درسنا مقالة الشيخ عبد الكريم الخطيب . نقف هنا عند منطقه من وجود المعجزة شهادة للنبوة . انها قضية مبدإ : محمد نبى ، فلا بد من المعجزات تشهد له ، لذلك فهى قائمة ملموسة . يقول : " إذا كان من الممككن أن يسلم عقلا بأن تخلو سيرة الرسول الى مبعثه من إشارات و دلالات تشير إلى النبوة و تحدث عنها ... اذا كان من الممكن ان يسلم بهذا – و هو ما لا يمكن أن يسلم به أو يقبل بحال أبدا – فإن عدم التسليم بهذا فى الفترة السابقة من حياة النبى قبل مبعثه يرتفع الى درجة المستحيل ان تخلو سيرة النبى خلال فترة النبوة من آيات و معجزات تشهد له بأنه ذلك الانسان الذى اختاره الله و اصطفاه و رفع منزلته على منازل الناس جميعا فى الدنيا و الآخرة " ( النبى محمد ، ص 224 ) .

معجزة القرآن ١٦٧

الاستحالة شهادة ناطقة على ضرورة المعجزة لصحة النبوة . لكن مقالته جامعة للمتناقضات :

تناقض بالنزول من المبدإ الى الواقع : يجب أن يكون لمحمد معجزات ، إذن محمد له معجزات تشهد له ، و هذا خلاف صريح القرآن .

تناقض بالدوران فى حلقة مفرغة : ان محمدا نبى ، لذلك يستحيل ان تخلو سيرته من معجزات . إن أمثال الخطيب يرفضون أن يخضعوا للواقع القرآنى الصريح و موقفه السلبى من كل معجزة تشهد له .

تناقض فى موقفه . إنه من جهة يروى " إشارات و دلالات تشير الى النبوة و تحدث عنها " قبل البعثة ، و يقص معجزات ، خلال فترة النبوة ، تشهد له . و من جهة أخرى يعلن : " أما معجزة النبى الكبرى و آيته الخالدة فهى القرآن الكريم " ( ص 237 ) . و العبرة بمعجزة التحدى ، و ليس لمحمد سوى القرآن كما يصرح الخطيب نفسه : " و نحن نقول : ان معجزة الرسول هى القرآن ، و ليس له معجزة سواها " ( ص 72 ) .

و فى معجزة القرآن يناقض أيضا نفسه : " إن الاعجاز القرآنى يخاطب العقل و يناجى الوجدان . على حين ان الاعجاز فى معجزات الرسل إنما يخاطب الحواس و يصادم ناموس الطبيعة القائم فى الناس ، فيحدث فى الحياة زلزلة عنيفة تنبه الغافلين و توقظ النيام . لهذا كان الاعجاز القرآنى فى حاجة ملزممة الى قوة تظاهره و تجعل له فى الناس قدما ثابتة " ( ص 279 ) . فالاعجاز القرآنى بحاجة الى معجزة ، لكن المعجزة ليست بحاجة الى اعجاز . ان الشيخ يسجل ضعف الحجة عند الناس بالاعجاز القرآنى . لكن هذا السلطان المبين ، المعجزة ، " التى تظاهره و تجعل له فى الناس قدما ثابتة " ، لا وجود لها فى القرآن و السيرة بشهادة الراسخين فى العلم من أهل القرآن . فمبدأ الاستحالة الذى ينادى به الشيخ الخطيب يسقط أمام الواقع .

و هكذا فإن فلسفة علماء العصر ، لتعليل امتناع المعجزة فى القرآن و السيرة ، فلسفة تسىء الى الوحى الإلهى و حرمته و عصمته . فلا نبوة بلا معجزة .