١٦٤ معجزة القرآن

عشب الحقل الذى يكون اليوم ، و يطرح فى التنور غدا ، يلبسه الله هكذا ، فكم بالأحرى يلبسكم أنتم يا قليلى الايمان ! ... و أبوكم السماوى عالم بأنكم تحتاجون الى هذا كله : فاطلبوا أولا ملكوت الله و بره و هذا كله يزاد لكم " ( متى 6 : 25 – 33 ) . هذا هو منطق الفطرة السليم . و هو الاسلوب المعجز فى لفت النظر الى الكونو آياته . لكن السيد المسيح يقرن الحكمة بالمعجزة لأنهما جناحا التنزيل فى الانجيل .

و بولس ، رسول المسيح ، يسير على خطى معلمه ، فيخاطب أهل روممة ، عاصمة المسكونة ، مستعليا بالحكمة المنزلة على الحكمة الهلنستية الرومانية : " إن ما يعرف عن الله واضح لهم ، فقد أبانه الله لهم : فمنذ خلق العالم ، لا تزال صفاته الخفية ، لا سيما قدرته الأزلية و إلهيته ، ظاهر للبصائر فى مخلوقاته . فلا عذر لهم ، لأنهم عرفوا الله و لم يمجدوه و لم يحمدوه كما ينبغى لله ، بل تاهوا فى آرائهم الباطلة ، فأظلمت قلوبهم الغبية . زعموا أنهم حكماء ، فإذا هم حمقى ، قد استبدلوا بمجد الله الخالد صورا تمثل الانسان الزائل و الحيوان من طير و دابة و زحافات " ( 1 : 19 – 23 ) .

فلم يأت القرآن " بأسلوب جديد " فى النبوة و الدعوة . إنما سار على مثال الكتاب كله ، إمامه فى الهدى و البيان : " و من قبله كتاب موسى إماما و رحمة ، و هذا كتاب مصدق لسانا عربيا " ( الاحقاف 12 ، هود 17 ) ، فليس فيه من جديد سوى اللسان العربى ، و ذلك بشهادته الصادقة القاطعة . و هو إنما كان " يعلمهم الكتاب و الحكمة " ( البقرة 129 ، آل عمران 164 ، الجمعة 2 ) اى " التوراة و الانجيل " ( آل عمران 48 ، المائدة 110 ) . و يؤكد : " هذا ذكر من معى و ذكر من قبلى " ( الانبياء 24 ) ، " و انه لذكر لك و لقومك " ( الزخرف 44 ) ، " فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون بالبينات و الزبر " ( النحل 43 – 44 ) . إن " الذكر " القرآنى ينتسب إلى " أهل الذكر " أى أهل الكتاب ، و يستشهد بهم على صحة دعوته . هذا هو أسلوب القرآن ، ى غيره .

لقد جاء الكتاب و الانجيل بهذا " الاسلوب الجديد " ، " أسلوب لفت النظر إلى الكون و ما فيه من آيات باهرة ، و البرهنة بها " . لكن الكتاب و الانجيل قرنا الحكمة بالمعجزة . و اقتصر القرآن وحده على الحكمة بدون معجزة .

3 ) فهل اقتصار القرآن على " الأسلوب الجديد " المزعوم هو " معجزة النبوة الكبرى الخالدة " ؟ ز هل يصح هذا " الاسلوب الجديد " برهانا على صحة النبوة و صدق الدعوة ؟

معجزة القرآن ١٦٥

إن أسلوب البرهنة بآيات الخليقة على خالقها هو أسلوب جميع المتكلمين فى التوحيد ، من أهل الكتب السماوية ، و من أهل الفلسفة و الكلام فى كل الأديان . فليس هو مقتصرا على القرآن و حده ، ليكون " معجزة النبوة الكبرى الخالدة " !

و هذا " الاسلوب الجديد " يعنى اقتصار التوحيد المنزل على التوحيد العقلى كأنه ليس فى تنزيل الله من غيبه ما يسمو على الانسان و عقله ! فلو لم يكن عند الله ما هو أسمى من الفطرة و من العقل لما أنزله الله ! فما يقدر عليه العقل بفطرته لا حاجة لنا الى وحى به . هذا هو منطق البوذية و البرهمية : لا نبى سوى العقل !

ثم ان إنزال الوحى منزلة العقل هو جعل العقل حكما على التنزيل . و هذا هو موقف الدهريين فى كل زمان . انه تلبيس الوحى بالمنطق . و قد قالوا : " من تمنطق تزندق " !

و ان قياس الحقيقة المنزلة على الحقيقة البشرية و بميزانها يضطرنا الى اعتبار كل حقيقة عقلية أو علمية منزلة ، و اعتبار كل كتاب بشرى – حتى من ملحد – يعلم الحقيقة منزلا ! إذ لم يبق من سبيل الى التمييز فى الحقيقة بين وحى الله و فيض العقل .

و اعجاز القرآن كدليل على وحى الله به ، " لاجتماع الدليل و المدلول عليه فيه " ، لا يتخطى اللغة العربية ، و للخاصة من أهلها ، و يذوب فى الترجمة الى لغات العالمين ، فتبقى الحقيقة المنزلة للعالمين أجمعين بدون دليل على صحتها و مصدرها . و إرغام العالمين على معرفة العربية ، حتى ذوق الجمال الفنى فى القرآن ، هو تكليف الناس بما لا طاقة لهم به ، و يخالف سنن الله فى خلقه ، " و لا يكلف الله نفسا إلا وسعها " .

النتيجة الحاسمة ان الحقيقة فى كلام الخالق و كلام المخلوق واحدة فى ذاتها : فلا شىء فى ذاتها يدل على مصدرها ، من حيث هى حقيقة . لذلك لا يميز الحقيقة ، من حيث مصدرها ، فى كلام الله ، عنها فى كلام الانسان ، سوى دليل إلهى خارج عنها و هذا الدليل الإلهى ، قرين الحقيقة المنزلة للدلالة على مصدرها و على عصمتها ، هو المعجزة . فلا نبوة بل معجزة .

9 – هل " كل رسول تكون معجزته من جنس ما نبغت فيه أمته " ؟

هى مقالة السيد عفيف عبد الفتاح طبارة فى كتابه ( روح الدين الاسلامى ، ص 30 ) ، تواترت اليه عمن سبقه اليها من أمثاله . فاختار الله معجزة لمحمد الاعجاز البيانى فى القرآن ، لأن " العرب كانت مفطورة على حب البلاغة و الأدب و الشعر و الخطابة " ( ص