١٦٢ معجزة القرآن

8 – هل القرآن " أسلوب جديد " فى النبوة ؟

قال الاستاذ دروزة يفلسف حكمة الله فى منع المعجزات عن محمد دلائل على صحة نبوته :

" إن حكمة الله اقتضت أن لا تكون الخوارق دعامة لنبوة سيدنا محمد عليه السلام ، و برهانا على صحة رسالته و صدق دعوته – التى جاءت بأسلوب جديد هو أسلوب لفت النظر إلى الكون و ما فيه من آيات باهرة ، و البرهنة بها ... ثم أسلوب مخاطبة العقل و القلب ... ( و هذا الاسلوب الجديد ) جعلها فى غنى عن معجزات خارقة للعادة لا تتصل بها بالذات ... هو أسلوب خالد حى قوى فى كل زمان و مكان ببراهينه و دلائله و حيويته و نفوذه و فصاحته و معقوليته و منطقه و سموه . و لذلك كان و ظل معجزة النبوة الخالدة الكبرى من هذه النواحى " .

أجل إن أسلوب القرآن " حى خالد قوى ... ببراهينه و دلائله و حيويته و نفوذه و فصاحته و معقوليته و منطقه و سموه " . لكن هل هو " أسلوب جديد " ؟ و هل قبل به أهل مكة برهانا على صحة النبوة و الدعوة ؟ نضيف الى ما قلناه سابقا هذه الاعتبارات .

1 ) لم يقبل أهل مكة " بالاسلوب الجديد " فى القرآن معجزة له . يكفينا شهادة الاستاذ دروزة نفسه ( 1 ) : " فوقف الزعماء ازاء هذا الموقف القرآنى من تحديهم ، و أخذوا يطالبون النبى صلعم بالمعجزات و الآيات برهانا على صدق دعواه أولا . ثم أخذوا يدعمون مطالبهم بتحد آخر و هو سنة الأنبياء السابقين الذين جاؤوا بالآيات و المعجزات ... و لقد تكرر طلب الآيات من الجاحدين ، أو بالأحرى زعمائهم ، كثيرا حتى حكى القرآن المكى ذلك عنهم خمسا و عشرين مرة صريحة ، عدا ما حكى عنهم من التحدى الضمنى ، و من التحدى بالإتيان بالعذاب و التساؤل عن موعده . و لا نعدو الحق اذا قلنا إن المستفاد من الآيات القرآنية المكية أن الموقف تجاه هذا التحدى المتكرر كان سلبيا " .

فالواقع القرآنى شاهد عدل على أن هذا " الاسلوب الجديد " فى القرآن لم يكن برهانا على صحة النبوة و الدعوة ، و لا قام عند العرب مقام المعجزة دليلا على صحة النبوة . فلم يكن هذا الاسلوب الجديد " فى غنى عن معجزات خارقة للعادة " .


1 سيرة الرسول 1 : 215 – 226 .
معجزة القرآن ١٦٣

2 ) و هل كان " أسلوب لفت النظر الى الكون و ما فيه من آيات باهرة ، و البرهنة بها " " أسلوبا جديدا " فى النبوة ؟

ألم يكن " أسلوب لفت النظر الى الكون و ما فيه من آيات باهرة ، و البرهنة بها " على صحة التوحيد أسلوب " الكتاب و الحكم ( الحكمة ) و النبوة " الذى أمر محمد أن يقتدى به ( الأنعام 90 ) ؟ أجل لقد كان أسلوب الكتاب و الأنبياء كأشعيا ، و أسلوب الزبور ، و أسلوب الحكمة ، و أسلوب الانجيل . ففى عرف الكتاب كله ، أن الخليقة تدل على خالقها .

نكتفى من الكتاب بقول الحكمة : " إن جميع الذين لا يعرفون الله هم حمقى من طبعهم . لم يقدروا أن يعلموا الكائن من الآيات المنظورة ؟ و لم يتأمولوا المصنوعات حتى يعرفوا صانعها " ( سفر الحكمة : ف 13 كله ) .

و قال الاستاذ العقاد يصف إعجاز الانجيل فى دعوة السيد المسيح 1 : " و ذوق الجمال باد فى شعوره ، كما هو باد فى تعبيره و تفكيره . و التفاته الدائم الى الأزهار و الكروم و الحدائق التى يكثر من التشبيه بها فى أمثاله ، عنوان لما طبع عليه من ذوق الجمال و الاعجاب بمحاسن الطبيعة . و كثيرا ما كان يرتاد المروج و الحدائق بتلاميذه ، و يتخذ من السفينة على البحيرة – بحيرة طبريا – منبرا يخطب منه المستمعين ، على شاطئها المعشوشب ، كأنما يوقع كلامه على هزات السفينة ، و صفقات الموج ، و خفقات النسيم . و لم يؤثر عنه أنه ألف المدينة كما يألف الخلاء الطلق ، حيث يقضى سويعات الضحى و الأصيل ، أو سهرات الربيع ، فى مناجاة العوالم الأبدية ، على قمم الجبال ، و تحت القبة الزرقاء ... و هم يصغون بأسماعهم و قلوبهم الى ذلك المعلم المحبوب الذى كان يناجيهم بالغرائب و الغيبيات مأنوسة حية " .

و الشعر و الحكمة و الصوفية فطرة فى السيد المسيح . فيأخذ من مظاهر الكون ، بالمنطق لفطرى السليم ، براهينه على عناية الله بخلقه : " إنى أقول لكم : لا تهتموا لأنفسكم بما تأكلون ! و لا لأجسادكم بما تلبسون ! أليست النفس أعظم من الطعام ، و الجسد أفضل من اللباس ؟ انظروا الى طيور السماء ، فإنها لا تزرع و لا تحصد و لا تجمع الى أهراء ، و أبوكم السماوى يقوتها : أفلستم أنتم أفضل منها بكثير ! ... تأملوا زنابق الحقل كيف تنمو : إنها لا تتعب و لا تغزل ، و أنا أقول لكم : ان سليمان فى كل مجده لم يلبس كواحدة منها ! فإذا كان


1 حياة المسيح ، ص 170 – 177 .