١٦٠ معجزة القرآن

أقنعهم بالمنطق السليم ، و ظلوا طول العهد المكى يقولون : " لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتى رسل الله " ( الانعام 124 ) ، فجاءهم من المدينة " بالحديد الذى فيه بأس شديد و منافع للناس " فرضخوا لسلطانه . فبيئة القرآن نفسها لم تقبل منطق " الحكمة و الموعظة الحسنة " ، بل تحدت محمدا بمنطق المعجزة .

و هل كانت دعوة بالمنطق السليم ، فى المدينة ، الدعوة التى تشرع الجهاد فى سبيل فرض النبوة ؟ و هل كانت دعوة الى العقول و القلوب و الضمائر ، تلك الدعوة التى يشهد كتابها أن " فيه آيات محكمات هن أم الكتاب ، و أخر متشابهات ... و ما يعلم تأويله إلا الله ، و الراسخون فى العلم يقولون : " آمنا به " ( آل عمران 7 ) أى " آمنا بالمتشابهأنه من عند الله ، و لا نعلم معناه " ( الجلالان ) ؟ فهل هذا هو المنطق السليم ، و سبيل النبوة الصحيح ؟ فهل خطاب الناس " بمتشابه " القرآن – و هو أكثره – جواب على بلوغ البشرية سن الرشد ، و السبيل الصحيح لإقناعها بالمنطق السليم ، " الذى لا يعلم تأويله إلا الله " ؟

إن سبيل النبوة الصحيح هو الحكمة و المعجززة . و لا تقوم حكمة من عند الله بدون معجزة . المعجزة دليل النبوة الأوحد ، ووسيلة الإقناع الوحيدة على صحة النبوة و الحكمة المنزلة " و ليس فى المقدور نصر دليل على صدق النبى غير المعجزة " .

7 – هل " الآية الكبرى هى صدق الكلمة ، و صدق النبى " ؟

يقول الاستاذ نظمى لوقا : " الآية الكبرى هى صدق الكلمة من حيث هى : فإن الحقيقة آية نفسها تحمل برهانا فى مضمونها ، فيطمئن اليها العقل ، و يبدو ما يباينها هزيلا واضح البطلان " . هذا هو مقياس النبوة الأول . و قد رأينا بطلانه . فهو يضع الوحى و التنزيل موضع العقل و المنطق ، و يضفى صفة الوحى على كل حقيقة بشرية .

و مقياس النبوة الثانى فى صدق الرسول . و هو مزدوج : " آية صدقه ما أتانا به " فى مطابقة الوحى للحقيقة ، " و ان أول مقياس يقاس به صدق صاحب الرسالة هو مبلغ إيمانه بها " . هذا منطق غريب يدور فى حلقة مفرغة : الكلمة منزلة لأنها صادقة ، و هى صادقة لأنها منزلة ! النبى صادق لأن نبوته صادقة ، و نبوته صادقة لأن النبى صادق .

و هذا التخريج لا يأخذ بعين الاعتبار الواقع القرآنى . يقول : " ان اول مقياس يقاس به صدق صاحب الرسالة هو مبلغ ايمانه بها " . فهل استشهاد سقراط فى سبييل فلسفته دليل

معجزة القرآن ١٦١

على أنها منزلة ؟ و هل استشهاد الحلاج فى سبيل الحلولية المطلقة برهان على أنها الحقيقة ؟ و هل ايمان الفلاسفة و العلماء بنظرياتهم برهان على أنها منزلة من الله ؟

و هذا المقياس ينقضه ايضا الواقع القرآنى : " فإن كنت فى شك مما أنزلنا اليك ، فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك : لقد جاءك الحق من ربك ! فلا تكونن من الممترين ! و لا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله ، فتكون من الخاسرين " ( يونس 94 – 95 ) . و التحذير الشديد لمحمد برهان على ان الشك من التنزيل قد بلغ فى نفسه مبلغا . و يلاحقه القرآن : " فلا تكونن من الممترين " ( الانعام 114 ، يونس 94 ، البقرة 147 ) ، " فلا تك فى مرية منه ، إنه الحق من ربك " ( هود 17 ) ، " فلا تك فى مرية مما يعبد هؤلاء " ( هود 109 ) .

و يدعوه القرآن مرارا الى الاستقامة فى دعوته : " فاستقم كما أمرت و من تاب معك ، و لا تطغوا ، إنه بما تعملون بصير " ( هو 112 ) ، " فلذلك ( دين ابراهيم و موسى و عيسى ) فادع و استقم ، كما أمرت ، ولا تتبع أهواءهم ، و قل : آمنت بما أنزل الله من كتاب " ( الشورى 15 ) . نقل الزمخشرى فى تفسير " فاستقم كما أمرت " ( هو 112 ) عن ابن عباس : ما نزلت على رسول الله صلعم فى جميع القرآن آية كانت أشد و لا أشق عليه من هذه الآية ، و لهذا قال : ( شيبنى هود ) ! و عن بعضهم : ما الذى شيبك منها ! قال : " فاستقم كما أمرت " . ثم قال : أفتقر الى الله بصحة العزم " .

و الأزمات الايمانية متواترة فى القرآن 1 . و هى واقع قرآنى لا مرية فيه . فكيف " يكون أول مقياس يقاس به صدق صاحب الرسالة ، هو مبلغ إيمانه بها " ؟

و ان صح هذا المقياس ، فما البرهان على أن النبى – كل نبى – ليس موهوما ؟ ! فما البرهان ان الوحى عنده ليس وحى الفطرة ، بل وحى الله ؟ إن إخضاع صحة الوحى للعامل النفسانى هو أكبر شبهة عليه ، إ لا عصمة إلا الله .

و صعمة الله فى التنزيل لا تقاس على " مبلغ إيمان النبى به " ، و لا " على صدق الكلمة من حيث هى " . فالتنزيل من الله ، لا يؤيده شىء من الانسان ، انما يؤيده شىء من الله نفسه ، و هذا هو المعجزة .


1 راجع كتابنا : القرآن و الكتاب ( القسم الثانى ) ، ص 697 – 705 .