١٨٠ معجزة القرآن

الغيبية فى الآية ، و يدل على ان محمدا لم يكن يرى فيها كشفا للغيب ، يجهل معه موته القريب . إن النبأ لا يكون نبوءة إلا متى اقترن بالتحقيق ، و هنا يحول موت النبى دون التحقيق .

و النبوءة الغيبية لا تكون مشروطة . و هنا النبوءة مشروطة برجوعه سالما من غزوة تبوك : " فإن رجعك الله الى طائفة منهم " ( 83 ) . و هذا الشرط يرفع معنى النبوءة فى الآية . فلو أمهل الله محمدا فغرا بعد تبوك ، فذلك تنفيذ أمر عسكرى ، لا تحقيق نبإ غيبى . و هذا أيضا لم يحصل . إن النبأ الغيبى تحقيقه محتوم ، و غير مشروط .

قل : انها أوامر عسكرية ، قد تقتضى الظروف تبديلها ، فليس فيها من نبوءات غيبية ، كما يتوهمون .

ثامنا : قصة الروم

يرون نبوءة تاريخية كبرى فى قوله : " غلبت الروم فى أدنى الأرض ، و هم من بعد غلبهم سيغلبون فى بضع سنين ، لله الأمر من قبل و من بعد ، و يومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ، ينصر من يشاء و هو العزيز الرحيم ، وعد الله ، لا يخلف اله وعده ، و لكن أكثر الناس لا يعلمون " ( الروم 2 – 6 ) .

قصة الروم هذه لا تمت الى السورة التى تستفتحها بصلة . فلا يعرف زمانها . ثم ان لها قراءتين على المعلوم ( غلبت ) و على المجهول ( غلبت ) . و بحسب اختلاف القراءة قد تعنى الروم و الفرس ، أو الروم و العرب . و آية مجهولة المعنى لا تكون نبأ غيبيا .

و ( أسباب النزول ) تؤيد ذلك ، قال السيوطى : " أخرج الترمذى عن أبى سعيد قال : لما كان يوم بدر ظهرت الروم على فارس فأعجب ذلك المؤمنين ، فنزلت ( آلم غلبت الروم ) الى قوله ( بنصر الله ) يعنى بفتح العين . و أخرج ابن جرير عن ابن مسعود نحوه " – فعلى القراءة بالمعلوم ان الآية تسجيل واقع تاريخى مشهود ، يتوسم فيه المسلمون خيرا لهم تجاه المشركين . " و أخرج ابن أبى حاتم عن ابن شهاب قال : بلغنا ان المشركين كانوا يجادلون المسلمين و هم بمكة قبل أن يخرج رسول الله صلعم فيقولون : الروم يشهدون أنهم أهل كتاب ، و قد غلبتهم المجوس ، و أنتم تزعمون أنكم ستغلبونا بالكتاب الذى أنزل على نبيكم .

معجزة القرآن ١٨١

فكيف غلبت المجوس الروم و هم أهل كتاب ، فسنغلبكم كما غلبت فارس الروم . فأنزل الله ( آلم غلبت الروم ) . و أخرج ابن جرير نحوه عن عكرمة و يحيى بن يعمر " – واقع الحال قبل الهجرة لا يسمح بمثل هذا الحوار ، فقد ظل المسلمون مغلوبين على أمرهم فى مكة حتى اضطروا إلى الهجرة الى يثرب . مع ذلك يستنتج السيوطى : " و قتادة فى الرواية الأولى على قراءة ( غلبت ) بالفتح لأنها نزلت يوم غلبهم يوم بدر . و الثانية على قراءة الضم ( غلبت ) فيكون معناه ، و هم من بعد غلبتهم فارس سيغلبهم المسلمون ، حتى يصح معنى الكلام ، و إلا لم يكن له كبير معنى " – فكبير المعنى عنده ان المسلمين سيغلبون الروم بعد انتصارهم على الفرس . و هذه نظرية ثالثة فى معنى الآية .

و نبأ له ثلاثة معان ليس بنبوءة غيبية .

و قد تكون القراءة على المجهول ، أى انتصار الروم على الفرس بعد هزيمة الروم ، هى الفضلى ، فى شبه اجماع . لكن على هذه الحال ، ليس فى الخبرمعنى النبوءة الغيبية ، " لأنها نزلت يوم غلبهم ، يوم بدر " ، انها تسجيل حدث مشهود عام 624 م فرح به المسلمون لنصر الإيمان ، كما فرحوا بنص بدر على مشركى العرب . و التاريخ خير شاهد : فقد بدأت حملة الفرس الظافرة عام 612 م فاحتلوا سورية سنة 622 م ، و فلسطين 614 م و مصر 618 م . و ظهر هرقل فسار بحملة الثأر الظافرة سنة 622 م ، و سنة 624 م كان طرد الفرس من سوريا ، يوم نصر بدر . و ظل هرقل زاحفا حتى احتل عاصمة فارس ، و استرجع منها ذخيرة الصليب . فما يسمونه نبوءة فى آية الروم ليس سوى واقع تاريخى مشهود .

و هناك نحو اثنين و عشرين خبرا من تلك النبوءات المزعومة ، اقتصرنا على أشهرها . و أنت ترى تهافت التحليل لرؤية نبوءة غيبية حيث لا شىء من ذلك .

و القول الفصل ، فى باب الإخبار بالغيوب ، أن علم الغيب المجهول معجزة إلهية ، و القرآن ينفى عن محمد كل معجزة منعا مبدئيا مطلقا ( الاسراء 59 ) و منعا فعليا قاطعا ( الانعام 35 ) .
قال الاستاذ دروزة 1 : " أما التأييدات و الإلهامات الربانية للنبى صلعم التى تضمنت أخبارها آية قرآنية عدة ... مثل الذى جاء فى سورة ( التحريم 3 ) فإنها كما هو ظاهر من


1 سيرة الرسول 1 : 229 – 231 .