١٨٢ معجزة القرآن

نصوصها و روحها لا تدخل فى عداد معجزات التحدى . و بالتالى فإنها ليس من شأنها نقض الموقف السلبى العام الذى تمثله الآيات القرآنية " .

و فاتهم أيضا الاسلوب البيانى و الصوفى فى القرآن : فهو يأتى بالتعميم فى موطن التخصيص ، فيأخذ الواقع باطلاق التعبير مداه الحقيقى ! و هو ينسب العلل و العوامل فى المخلوقات الى العلة الأولى فى الوجود ، فينظر من تلك الزاوية الى الحياة الدنيا نظرة صوفية ، لا نظرة واقعية تاريخية . و هذا الاسلوب القرآنى المزدوج هو الذى يعطى " تلك التأييدات و الإلهامات الربانية " ، فى أسلوب عرضها ، صيغة النبوة الغيبية ، مع انها ليست من علم الغيب فى شىء . فلو فطنوا لاسلوب القرآن لما وهموا .

و كيف فات القوم تصريح القرآن القاطع : " و ما أعلم الغيب " ( الانعام 50 ) . و لم يكشف له الله الغيب ، فهو يشهد على نفسه : " لو كنت أعلم الغيب ، لاستكثرت من الخير ، و ما مسنى السوء " ( الاعراف 188 ) . بعد هذا الاعلان القرآنى الصريح القاطع ، كيف يجوز لهم أن يروا فى القرآن نبوءات من علم الغيب ؟ ! إنهم يكابرون و ينقضون صريح القرآن .

فليست أنباء المستقبل فى القرآن نبوءات من علم الغيب . ينقض ذلك نقضا مبرما " الموقف القرآنى السلبى من كل معجزة " . إنما هى من " متشابه " القرآن فى أسلوبه البيانى و الصوفى .

بحث ثان

هل فى القصص القرآنى نبوءة من علم الغيب ؟

قال الباقلانى ، شيخ المتكلمين فى ( اعجاز القرآن ) – و القوم على رأيه الى اليوم – " فى جملة وجوه اعجاز القرآن " - : " ذكر أصحابنا و غيرهم فى ذلك ثلاثة أوجه من الاعجاز : الأول الإخبار بالغيوب – و قد رأينا حقيقة أمره ، و الثالث بديع نظمه و عجيب تأليفه –

معجزة القرآن ١٨٣

و هو الاعجاز حصرا ، و سنفرد له القسم الثانى كله . بقى الثانى : " و الوجه الثانى انه كان معلوما فى حال النبى صلعم أنه كان أميا لا يكتب و لا يحسن أن يقرأ . و كذلك كان معروفا من حاله أنه لم يكن يعرف شيئا من كتب المتقدمين و أقاصيصهم و أنبائهم و سيرهم . ثم أتى بجملة ما وقع و حدث من عظيمات الأمور ، و مهمات السير ، من حين خلق الله آدم عليه السلام ، الى حين مبعثه " .

فالققص القرآنى عنده وجه ثان من وجوه اعجاز القرآن .

يشبهه أخبار الخلق و التكوين ، و أوصاف اليوم الآخر . و ما نقوله فى القصص القرآنى ، من حيث فيه نبوءة من علم الغيب ، ينطبق على النوعين الآخرين .

فالباقلانى و من لف لفه يبنون اعجاز القرآن فى قصصه كما فى غيره على أمية محمد ، و هذا يناقض القرآن و التاريخ معا .

أولا : قصص القرآن كان متداولا بين العرب قبل القرآن

يقول الاستاذ دروزة 1 : " عرف العرب الحجازيون أهل الكتاب من يهود و نصارى ، فى بلاد الحجاز و الشام ، و احتكوا بهم . و أخذوا عنهم كثيرا من الأفكار و المعارف . و منهم من دان باليهودية و النصرانية ، و تضلع باللغة العبرانية ، و اطلع على ما عند اليهود و النصارى من كتب . و قد عرفوا كذلك ما كان عليه أهل الكتاب من خلاف و شقاق فى الأمور الدينية و المذهبية . و كان لكل ذلك صدى و أثر فى نفوسهم و أذهانهم ، على ما بسطناه فى كتابنا ( عصر النبى و بيئته قبل البعثة ) . و قد كان فى مكة خاصة بعض الجاليات الكتابية ، يرجع تاريخ سكناها الى ما قبل البعثة ، و شهدت أدوار الدعوة النبوية . و لم تكن بعزلة عنها بطبيعة الحال " – فالمعارف الكتابية كانت شائعة بمكة ، و لا يصح ان يبقى محمد فى عزلة عنها ، أو غفلة .

ثانيا : اتصال العرب بأهل الكتاب

يقول دروزة أيضا 2 : " و لقد أثبتنا بالاستدلالات القرآنية فى كتابنا ( عصر النبى و بيئته قبل البعثة ) أن أهل بيئة النبى صلعم كانوا على اتصال بالأمم الكتابية و غير الكتابية ، عن طريق المستقرين منهم فى الحجاز ، و عن طريق الرحلات المستمرة الى البلاد المجاورة . و أن


1 سيرة النبى 1 : 296 .
1 سيرة النبى 1 : 37 – 39