١٨٤ معجزة القرآن

كثيرا من أخبارهم و معارفهم و عقائدهم و مقالاتهم و أحوالهم قد تسربت الى العرب ، و شاهدوا مشاهدها التاريخية و المعاصرة ، و ليس من الطبيعى ، و لا من المعقول أن يبقى النبى صلعم فى عزلة أو فى غفلة عن هذا كله . حقيقة قد علم الله النبى بوحيه و تنزيله أمورا متنوعة كثيرة كان غافلا عنها هو و قومه . و لكن ذلك لا يقتضى أنه كان غافلا عن كل ما حوله من أمور ، و ما يدور فى بيئته و على ألسنة معاصريه من كتابيين و غير كتابيين ، عرب و غير عرب ، من أنباء و قصص و ظروف و حالات ، فإن هذا يناقض طبائع الأشياء " .

ثالثا : اتصال محمد نفسه بأهل الكتاب

ثم يستشهد دروزة على اتصال محمد الشخصى بأهل الكتاب : " فى سورة ( النحل 103 ) ، آية تحكى دعوى بعض الكفار أن شخصا معينا كان يعلم النبى : ( و لقد نعلم انهم يقولون : إنما يعلمه بشر ! – لسان الذى يلحدون اليه أعجمى ، و هذا لسان عربى مبين ) . و الآية تنفى التعليم الذى يجحد بنزول الوحى على محمد صلعم ، غير أنها لا تنفى اتصالا ما بينه و بين أحد أفراد الجالية الأجنبية كما هو ظاهر . و المتبادر أن الجاحدين لم يكونوا ليقولوا ما قالوه ، لو لم يروا أو يعرفوا أن النبى صلعم كان يتردد على شخص من أفراد هذه الجالية فى مكة , هو أهل علم و تعليم دينى ، و له وقوف على الكتب السماوية ...

" و فى سورة ( الفرقان 4 ) آية تحكى كذلك دعوى بعض الكفار أن النبى صلعم كان يستعين فى نظم القرآن بقوم آخرين : ( و قال الذين كفروا : إن هذا إلا إفك افتراه ، و أعانه عليه قوم آخرون ! – فقد جاؤوا ظلما وزورا ) ، و الآية انما تنفى كذلك دعوى الاستعانة ، و لا تنفى اتصالا ، أو صحبة النبى صلعم و فريق من الناس . كما ان تعبير " قوم آخرين " يلهم أن المنسوب اليهم أكثر من واحد . و بالتالى يسوغ القول إنه غير الشخص الأعجمى المعنى فى آية النحل . و الذى يتبادر الى الذهن أيضا أن الكفار لم يكونوا ليقولوا ما قالوه مما حكته الآية ، لو لم يروا و يعرفوا أنه كان للنبى صلعم حلقة أو رفاق يجتمعون إليه ، و يجتمع إليهم ، و يتحدثون فى الأمور الدينية . و ليس من المستبعد – إن لم نقل من المرجح – أن هذا كان قبل البعثة ، ثم امتد الى ما بعدها " .

فمحمد كان على اتصال شخصى بأهل الكتاب من عرب و عجم – و اتصاله بالأعاجم يدل على أنه كان يعرف لغات أجنبية غير العربية ، كما أبنا ذلك فى غير موضع . و هذا ليس من الأمية علما و دينا فى شىء .

معجزة القرآن ١٨٥

رابعا : تداول الكتاب و الانجيل معربين بين العرب قبل القرآن

يقول الاستاذ دروزة أيضا 1 : " و هناك نقطة أخرى متصلة بهذا البحث عن اليهودية و النصرانية العربية ، ثم بالثقافة العربية بوجه عام ، و هى : ما اذا كانت التوراة و الانجيل فى عصر النبى و بيئته منقولا الى العربية أم لا ؟

" إن القرآن يحكى مواقف حجاج و مناظرة دينية بين النبى صلعم من جهة ، و بين النصارى و اليهود من جهة أخرى ... و القرائن القرآنبية تلهمنا من جهة ، و التاريخ المتصل بالمشاهدة من جهة أخرى ، يخبرنا بأن آلافا مؤلفة من العرب كانوا نصارى ، و منهم البدو و منهم الحضر . و استتباعا لهذا فإن السائغ أن يقال : إنه لابد من أن يكون بعض أسفار العهد القديم و العهد الجديد – إن لم يكن جميعها – قد ترجمت الى العربية قبل الاسلام ، و ضاعت مع ما ضاع من آثار مدونة فى غمرات الثورات و الفتن و الحروب . و لعل ما فى القرآن من أسماء و كلمات معربة كثيرة أو من تعابير مترجمة ، متصلة بمحتويات هذه الأسفار ، مما تصح أن تكون قرائن على ذلك . و نرى هذا هو الذى يستقيم مع وجود عشرات ألوف العرب النصارى ، و آلاف الرهبان و القسيسين العرب ، و مئات الكنائس و الأديار العربية " .

أجل هذا منطق التاريخ . و القرآن شاهد عدل أيضا . فهو يميّز أمة عيسى عن جماعة محمد و عن اليهود بأنهم " أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل و هم يسجدون " ( آل عمران 113). عرب نصارى يصلون بمكة، و تلاوة أسفار الكتاب والإنجيل ركن من أركان صلاتهم و قيام الليل: فبأي لغة يتلون الكتاب والإنجيل؟ لا شك أنهم يتلون بلغتهم العربية.

والقرآن يتحدّى اليهود: "قل: فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين" (آل عمران93). . ينتدبهم إلى تلاوة التوراة أمام عرب المدينة، ألا يدل هذا على أنها كلنت مترجمة الى العربية، و أنها تُتلى بالعربية، أولاً للدعاية، ثم ليفهمها العرب المتهّودون أو المنتصرون ؟

خامسا : القرآن " تفصيل الكتاب "

يصرح القرآن عن نفسه بأنه " تفصيل الكتاب " ( يونس 37 ) " بلسان عربى مبين " ( الشعراء 195 ) . و التفصيل بلغته الدرس و التعريب ، كما يظهر من مقالة العرب : " إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا ، و إن كنا عن دراستهم لغافلين " ( الانعام 156 ) . غفلوا هم


1 عصر النبى و بيئته قبل البعثة ، ص 456 – 458 .