٢٠٢ معجزة القرآن

88 ) . و يتجمع مع الألم الغيرة من حال المشركين فى الثروة : " و لا تمدن عينيك الى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا ، لنفتنهم فيه و رزق ربك خير و أبقى ! نحن نرزقك و العاقبة للتقوى " ( طه 131 – 132 ) . و عاد النبى الى فتنته و أزمته ، فعاد الوحى الى تأديبه : " لا تمدن عينيك الى ما متعنا به أزواجا منهم ، و لا تحزن عليهم ، و اخفض جناحك للمؤمنين " ( الحجر 88 ) . و هذا الموقف النبوى ليس من الإعجاز فى الشخصية و القداسة .

6 – إن الأزمة النفسية الصادسة كانت ، عكس السابقة ، فى تبرم النبى بجماعته من الفقراء ، عند أنفة المشركين من مجالسته وهم معه . فيأتيه التحذير و التأديب : " و اخفض جناحك للمؤمنين " ( الحجر 88 ) . لكنه يعود لمثلها ، فيعود الوحى الى التنبيه و الترهيب : " و اخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين " ( الشعراء 215 ) . و ينص القرآن على تضايق محمد بأتعس المؤمنين كالأعمى و اليتيم و السائل : " عبس و تولى ، أن جاءه الأعمى ... " ( عبس 1 – 2 ) ، " أما اليتيم فلا تقهر ! و أما السائل فلا تنهر ! " ( الضحى 9 – 10 ) . و قد تشتد الأزمة بالنبى فيطرد المؤمنين من مجلسه : " و لا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة و العشى يريدون وجهه ! ما عليك من جسابهم من شىء ! و ما من حسابك عليهم من شىء ! فتطردهم ، فتكون من الظالمين ! " ( الانعام 52 ) . فيأمره الوحى بالصبر عليهم : " و اصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة و العشى يريدون وجهه ! و لا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ! و لا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا و اتبع هواه ، و كان أمره فرطا " ( الكهف 28 ) . فكأن موقف النبى فى ذلك مظاهرة للكافرين ، فيردعه الوحى ردعا جميلا : " و ما كنت ترجو أن يلقى اليك الكتاب ، إلا رحمة من ربك : فلا تكونن ظهيرا للكافرين ! و لا يصدنك عن آيات الله بعد إذ أنزلت اليك ! و ادع إلى ربك و لا تكونن من المشركين ! " ( القصص 86 – 87 ) .

و قد علق دروزة 1 على هذه الأزمة المتواصلة بقوله : " و نعتقد أن آيات الانعام ( 52 – 53 ) و الكهف ( 28 – 30 ) و الاسراء ( 73 – 76 ) و القصص ( 85 – 88 ) ... تنطوى على مشاهد من أزمات النبى صلعم النفسية . إذ يصح أن يقال فى صدد آيات ( الانعام و الكهف ) ان النبى إذا كان خطر على باله أن يهمل الفقراء و المساكين من المسلمين ، أو


1 سيرة الرسول 1 : 282 .
معجزة القرآن ٢٠٣

يصرفهم عنه ، حينما احتج الزعماء و طلبوا إقصاءهم عنه ليجلسوا اليه و يتحدثوا معه ، فإنما كان هذا فى ساعة من ساعات أزماته النفسية ، و منبعثا عن حزنه الشديد لتمسك الزعماء بجحودهم و معارضتهم و متابعة الناس لهم ، و عن أمله فى احياز المعتدلين الى صفه . و اذا يصح ان يقال هذا كذلك فى صدد آيات ( الاسراء و القصص ) ، و ما يمكن أن يكون قد خطر على باله من التساهل و الاستجابة لبعض مقترحات هؤلاء الزعماء " .

و هذا أيضا من الإعجاز فى الشخصية النبوية .

7 – إن الأزمة النفسية السابعة كانت مزدوجة متواصلة طول مدة الدعوة . كانت أولا فى تحدى المشركين له بمعجزة ، نحو خمس و عشرين مرة صريحة ، غير الضمنية ، طول نجاح دعوته . و كانوا يقولون : " لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتى رسل الله " ( الانعام 124 ) . و إذا لم يأتيهم بآية كالأنبياء الأولين ، " قالوا : أضغاث أحلام ! بل افتراه ! بل هو شاعر ! فليأتنا بآية كما أرسل الأولون " ( الانبياء 5 ) . فدعاهم مرارا الى الآنتظار ، و انتظر معهم طويلا فما جاءت المعجزة ، حتى امتنعوا عن الايمان به : " و ما منع الناس أن يؤمنوا ... إلا أن تأتيهم سنة الأولين " ( الكهف 55 ) . أخيرا تحقق ان المعجزات منعت عنه منعا مبدئيا مطلقا : " و ما منعنا أن نرسل بالآيات ، إلا أن كذب بها الأولون " ( الاسراء 59 ) فكاد النبى و المؤمنون أن ييأسوا : " و لو أن قرآنا سيرت به الجبال ! أو قطعت به الأرض ! أو كلم به الموتى ! – بل الأمر الله جميعا ! أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا " ( الرعد 31 ) . أما المشركون فيئسوا و كفروا : " و يقول الذين كفروا : لست مرسلا ! – قل : كفى بالله شهيدا بينى و بينكم و من عنده علم الكتاب " ( الرعد 43 ) . آيته الوحيدة شهادة أولى العلم من أهل الكتاب .

و هاجر مع جماعته الى المدين ، فلقيه هناك تحد أكثر ايلاما ، مناورات المنافقين و استهزاؤهم من أول العهد ( البقرة 14 ) حتى آخره ( التوبة 64 – 65 ) .

فكلها أزمات نفسية متواترة متراكمة تهد الجبال هدا . فصمد النبى لها . إنها البطولة فى معركة الصمود . لكنها ، إن دلت على شىء ، فهى تدل على " بشرية " محمد فى شخصيته . و ما ظهر فيها من انفعالات و ثورات نفسية ، و عزم حينا على الأنتحار ، و حينا