٢٠٠ معجزة القرآن

و قد يتدخل الوحى ، فى تلك الحال ، حينا لتسليته : " طه . ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى ! " ( طه 1 – 2 ) ، و حينا لاحراجه و تعجيزه فى يأسه : " إنك لا تسمع الموتى ! و لا تسمع الصم الدعاء ! إذا ولوا مدبرين . و ما أنت بهادى العمى عن ضلالتهم ، إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا ، فهم مسلمون " ( النمل 80 – 81 ) .

3 – إن الأزمة النفسية الثالثة كانت فى تضايقه من استهزاء المشركين المتواصل : " كانوا به يستهزئون " ( 6 : 5 و 10 ، 11 : 8 ، 15 : 11 ، 16 : 34 ، 21 : 41 ، 26 : 6 ، 36 : 30 ، 39 : 48 ، 40 : 83 ، 43 : 7 ، 45 : 33 ، 46 : 26 ) . يستهزئون من شخصيته الكريمة : " و إذا رأوك ، إن يتخذونك إلا هزوا : أهذا الذى بعث الله رسولا ! " ( الفرقان 41 ) . و يستهزئون بدعوته : " و إذا رآك الذين كفروا ، إن يتخذونك إلا هزوا : أهذا الذى يذكر آلهتكم " ! ( الأنبياء 36 ) . فيضيق صدرا بهذا التهكم و الاستهزاء : " و لقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون " ( الحجر 97 ) . و يحزن : " فلا يحزنك قولهم : إنا نعلم ما يسرون و ما يعلنون " ( يسن 76 ) . يحزن حزنا متواصلا : " قد نعلم أنه ليحزنك الذى يقولون " ! ( الأنعام 33 ) . فتأتيه تعزية و تسلية : " إنا كفيناك المستهزئين " ( الحجر 95 ) . لكن سرعان ما يعود الهزء و السخرية فى المدينة ، بأسلوب أدهى ، مع المنافقين : " و إذا لقوا الذين آمنوا قالوا : آمنا ! و إذا خلوا إلى شياطينهم قالوا : إنا معكم ، إنما نحن مستهزئون " ! ( البقرة 14 ) . و تدوم الحال مع المنافقين فى الهزء و السخرية إلى آخر العهد بالمدينة : " يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما فى قلوبهم . قل : استهزئوا ، ان الله مخرج ما تحذرون ! و لئن سألتهم ، ليقولن : إنما كنا نخوض و نلعب : قل : أبالله و آياته و رسوله كنتم تستهزئون ؟ " ( التوبة 64 – 65 ) . و تأتى هذه الصورة فى موقفهم من التنزيل : " و اذا ما أنزلت سورة ، فمنهم من يقول : أيكم زادته هذه ايمانا ؟ فأما الذين آمنوا فزادتهم ايمانا و هم يستبشرون ، و أما الذين فى قلوبهم مرض ، فزادتهم رجسا على رجسهم و ماتوا و هم كافرون ! أولا يرون أنهم يفتنون فى كل عام مرة أو مرتين " ؟ ! ( التوبة 124 – 126 ) . هذه إشارة الى انه كان ينزل بالمدينة فى كل عام سورة أو سورتان ، فكان ذلك مناسبة لفتنتهم فى العام مرة أو مرتين . و هذه السخرية بمناسبة التنزيل كانت تصيب محمدا فى الصميم . و تتراكم الأزمات فى نفس النبى .

4 – إن الأزمة النفسية الرابعة ، كانت فى موقف أقاربه من دعوته . فهو يصف موقفهم منه بقوله : " و هم ينهون عنه ! و ينأون عنه ! " ( الأنعام 26 ) ، أى بعصبيتهم

معجزة القرآن ٢٠١

القومية يحمونه ، و بسبب شركهم يبتعدون عنه . و فى ( أسباب النزول ) للسيوطى : انها نزلت فى عمومته ، و كانوا عشرة : فكانوا أشد الناس معه فى العلانية ، و أشد الناس عليه فى السر ، و هذا الموقف كان يؤلمه جدا لتأثيره السىء على الناس . و بما أنه دام حتى فتح مكة ، فإن مرارة النبى من عشيرته كان متواصلا لا ينتهى . و ذات مرة جاءه الأمر : " و أنذر عشيرتك الأقربين ... فإن عصوك ، فقل : إنى برىء مما تعملون " ! ( الشعراء 214 – 216 ) . فدعاهم الى وليمة أولى ، ثم الى وليمة أخرى ، فما أفلح فى دعوتهم . فدعاهم جهارا الى جبل الصفا ، فعطل الدعوة عمه أبو جهل ، و ناوأه عمه أبو لهب . فتوسل بعمه العباس ، و عمته صفية ، فما نجح . فخلف ذلك فى نفسه يأسا عظيما ، زاده الوحى مرارة بتعجيزه : " إنك لا تهدى من أحببت ، و لكن الله يهدى من يشاء ، و هو أعلم المهتدين " ( القصص 56 ) ، " إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدى من يضل " ( النحل 37 ) . و هذا الموقف يجمع الى الألم الذاتى ، الفشل الاجتماعى المشهود . قال دروزة 1 : " و انه لمن الطبيعى أن يثير هذا الموقف السلبى فى نفس النبى صلعم أزمات حادة من حين لآخر . فقد عرفت بيئة النبى و عصره بالتضامن أو العصبية العائلية . و من المعقول أن ينظر الناس إلى موقف أقاربه الأدنين منها ، و أن يكون لهذا الموقف أثر فيهم . و أن يتخذ الزعماء موقفهم حجة للانصراف و المكابرة ، أو وسيلة للدعاء بين عامة الناس ضدها " . و قد دامت هذه الأزمة نحو عشرين عاما ، حتى فتح مكة .

5 – إن الأزمة النفسية الخامسة كانت فى غيرة محمد وجماعته من سلطان المعارضين و ثروتهم من مال و بنين . فكانوا يستعلون عليهم : " و اذا تتلى عليهم آياتنا بينات ، قال الذين كفروا للذين آمنوا : أى الفريقين خير مقاما و أحسن نديا ؟ ( مريم 73 ) . و هذا الاعتداد بمقامهم و نديهم يجعلهم يستكبرون على الدعوة : " و قالوا : نحن أكثر أموالا و أولادا ! و ما نحن بمعذبين " ( سبأ 35 ) . و كان هذا الاستعلاء على الدعوة سببا فى صد الناس عنها و سببا لمرارة دائمة فى نفس محمد ، قال يصفها على لسان موسى من فرعون : " و قال موسى : ربنا إنك آتيت فرعون و ملأه زينة و أموالا فى الحياة الدنيا ! ربنا ، ليضلوا عن سبيلك ! ربنا اطمس على أموالهم ! و اشدد على قلوبهم ! فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم " ( يونس


1 سيرة الرسول 1 : 285 .