١٩٨ معجزة القرآن

نفسه شاهد عدل . لقد ضايقه المشركون بتحديه المتواصل بآية كالأنبياء الأولين : " فلعلك تارك بعض ما يوحى اليك ، و ضاق به صدرك ، أن يقولوا : لولا أنزل عليه كنز ! أو جاء معه ملك ! إنما أنت نذير ، و الله على كل شىء وكيل " ( هود 12 ) .

و فى عجزه الدائم عن معجزة كان المعارضون يرشقونه بشتى التهم ، و يعجزه العجز عن معجزة ، فيستسلم الى الكبت و الضيق : " و لقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون ! فسبح بحمد ربك و كن من الساجدين ، و اعبد ربك حتى يأتيك اليقين " ( الحجر 97 – 99 ) .

و الصورة الكاملة لخلق النبى هى الدعوة أولا " بالحكمة و الموعظة الحسنة " بمكة حيث كان طريدا شريدا بين بنى قومه ، ثم الدعوة بالمدينة ، فى حمى المهاجرين و الأنصار ، بالجهاد ، " و الحديد فيه بأس شديد و منافع للناس " ( الحديد 25 ) . و قوله : " و انك لعلى خلق عظيم " ، " و ما أرسلناك إلا رحمة للعالمين " كأنه يقصد بها جماعته لا غيرهم من الناس : " يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار ، و ليجدوا فيكم غلظة ، و اعلموا أن الله مع المتقين " ( التوبة 123 ) . و هو يصور واقع الحال بقوله : " محمد رسول الله ، و الذين معه ، أشداء على الكفار ، رحماء بينهم ! " ( الفتح 29 ) ، " فلا تطع الكافرين و جاهدهم به جهادا كبيرا " ( الفرقان 52 ) .

و الحديث الذى يصفه خير وصف هو : انه " نبى الملحمة " ! و انه " نبى المرحمة " ! و كلاهما يتعارضان .

ثانيا : أزمات محمد النفسية

عقد الاستاذ دروزة فى ( سيرة الرسول ) فصلا قيما فى " الأزمات النبوية النفسية " ( 1 : 226 – 275 ) نقتطف منه بعض ما يلى :

1 – إن الأزمة النفسية الأولى كانت فى لقاء الوحى و فى فتوره ، حيث حاول الانتحار مرتين بعد رؤيا غار حراء ، كما نقل البخارى عن عائشة ( 1 : 3 ) : " رجع بها رسول الله يرجف فؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد ، فقال : زملونى ، زملونى ! فزملوه حتى ذهب عنه الروع " .

و روى الطبرى ان الروع لم يذهب ، بل فكر بالانتحار ، فقد نقل عن ابن الزبير : " قال : قلت إن الأبعد – يعنى نفسه – لشاعر أو مجنون ! لا تحدث بها عنى قريش أبدا .

معجزة القرآن ١٩٩

لأعمدن الى حالق من الجبل ، فلأطرحن نفسى منه ، فلأقتلنها . فلأستريحن ! قال : فخرجت اريد ذلك . حتى اذا كنت فى وسط الجبل سمعت صوتا من السماء يقول : يا محمد أنت رسول الله و أنا جبريل " 1 .

اطمئن الرسول ، لكن سرعان ما عاودته فكرة الانتحار عند فتور الوحى . يتابع البخارى حديث عائشة ( 1 : 4 ) : " ثم لم ينشب أن توفى ورقة و فتر الوحى " . كان ورقة ، قس مكة ، سنده فى طريق النبوة . و ها الاستاذ و السند يموت . " و لقد قيل : ان النبى ضاق ضيقا شديدا بانقطاع الوحى عنه . و انه كان يهيم على وجهه فى الصحراء يناجى ربه . و بلغ به الأمر مرة أن هم بإلقاء نفسه من قمة جبل شاهق . و قد انتهت هذه المحنة بنزول سورة ( الضحى ) التى تصف هذه الأزمة النفسية " 2 .

2 – إن الأزمة النفسية الثانية كانت فى انفعاله المتواصل من عدم ايمان بنى قومه برسالته : " فإن الله يضل من يشاء و يهدى من يشاء : فلا تذهب نفسك عليهم حسرات . ان الله عليم بما تصنعون " ( فاطر 8 ) . قال دروزة فى تعليقه 3 : " و تلهم انها نزلت فى وقت اشتد فيه الحزن و الغم على النبى صلعم بسبب موقف الجحود الذى يقفه قومه من دعوته " .

و هذه الأزمة تتجدد فى العهد الثانى بمكة : " لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين ! و ما يأتيهم من ذكر من الرحمان محدث إلا كانوا عنه معرضين ! " ( الشعراء 3 و 5 ) . علق عليها دروزة 4 : " و مما لا ريب فيه أنها نزلت فى ظرف اشتد فيه حزن النبى و همه من مواقف التكذيب و الإعراض ، و هذا مما احتوته الآيات صراحة " .

و دامت هذه الأزمة الى العهد الثالث بمكة : " فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا " ( الكهف 6 ) . قال دروزة ( 5 ) : " و الآية مثل آية الشعراء الثالثة . و تكرار الخطاب المماثل فى فترتين متباعدتين يدل دون ريب على تكرار الظروف ، و بالتالى على تكرار الأزمة من جراء موقف الجاحدين " .


1 نقله دروزة فى ( القرآن المجيد ) ، ص 21 .
2 محمد صبيح : عن القرآن ، ص 40 .
3 سيرة الرسول 1 : 276 .
4 سيرة الرسول 1 : 277 .
5 سيرة الرسول 1 : 278 .