٣٨  

الفصل الثاني

أبو زكريا يحيى بن عدي والكتب

إن المشكلة الأساسية التي يواجهها أي باحث هي "المكتبة" . بلا مكتبة ، لا بحث . وإذا كان الكتاب اليوم يعني "مطبوعا" ، فكان يعني أمس "مخطوطا" . كيف يحصل الباحث على مخطوطات ؟ وكيف يحصل على مخطوطات جيدة ، محررة ؟ تلك هي المشكلة الدائمة .

ونتيجة لذلك كان العلم عادة محصورا في فئة الأثرياء . ولم يكن يحيى بن عدي من هذه الفئة . فما الحل ؟ أمامه سبيلان : إما الالتحاق بأمير أو محسن ، يمول عمله ومكتبته ، وإما القيام بعمل يسترزق به .

فنرى المأمون مثلا يؤسس "بيت الحكمة" ، نحو سنة 832 م ،ويصرف على العلماء والأطباء والنقلة والفلاسفة . ونرى بني شاكر المنجم (محمد وأحمد والحسن) يبذلون الرغائب ، وينفذون العلماء إلى بلاد الروم ليقتنوا الكتب . وقال أبو سليمان المنطقي السجستاني (أحد تلاميذ يحيى بن عدي) : "إن بني المنجم كانوا يرزقون جماعة من النقلة (منهم حنين ابن إسحق ، وحبيش بن الحسن ، وثابت بن قرة ، وغيرهم) في الشهر نحو خمس مائة دينار ، للنقل والملازمة"1:

ولكن ، أين المأمون ؟ وأين بنو شاكر ؟ ففي عصر يحيى بن عدي لم يكن أحد في بغداد يصرف على النقلة ! وقد يكون ذلك سبب سفر الفارابي إلى حلب ، والتحاقه بالأمير سيف الدولة ، واستيطانه هناك ، إذ كان هذا الأمير ينفق على العلماء والشعراء والأدباء .

1 - يحيى بن عدي ناسخ

أما يحيى بن عدي ، فلأسباب نجهلها فضل المكوث في بغداد . واختار له نهجا آخر . وإليك ما رواه عنه صديقه ابن النديم :

"قال لي يوما في الوراقين2 ، وقد عاتبته على كثرة نسخه . فقال :3
"من أي شئ تعجب ، في هذا الوقت ؟ من صبري ؟! قد نسخت بخطيّ نسختين


1) راجع ابن النديم ص 340/4 – 7 .
2) أي في حي الوراقين ، ببغداد .
3) ابن أبي أصيبعة (ج 1 ص 235) أضاف : "لي" .
 أبو زكريا يحيى بن عدي والكتب ٣٩

من "التفسير" للطبري4 ، وحملتهما إلى ملوك الأطراف . وقد كتبت من كتب المتكلمين ما لا يحصى . ولعهدي بنفسي ، وأنا أكتب في اليوم والليلة مائة ورقة ، وأقل !"5.

فكان إذا يحيى ينسخ الكتب ، ويحملها إلى ملوك الأطراف ، كي يعيش ويقتني كتبا . وشهد له القفطي أنه "كان يكتب خطا قاعدا بينا"6. وقال : "وكان ملازما للنسخ بيده ، كتب الكثير من كل فن"7.

فلو كان يكتب لفائدته الخاصة ، ما كان لينسخ "من كل فن" ، بل من فن المنطق والفلسفة فقط ، أو من فن الكلام .

ولا شك أن يحيى كان في حاجة دائمة إلى الدنانير ، كما سنرى في المقطع التالي . حتى إنه نقل كتابا لتلميذه أبي سليمان السجستاني . قال ابن النديم : "وقال الشيخ أبو سليمان إنه استنقل8 هذا الكتاب9 أبا زكريا ، بتفسير الإسكندر الأفروديسي : نحو ثلاث مائة ورقة" 10.

وقد يكون السبب في استغراب ابن النديم كون الشيخ الفيلسوف يحيى بن عدي ، أستاذ جماعة المنطقيين في بغداد ، يعمل كناسخ ، بل ينسخ كتبا لتلامذته !

2 – يحيى بن عدي واقتناء الكتب

قلنا إن أبا زكريا كان محتاجا باستمرار إلى مال لاقتناء الكتب . وكان الكتاب غاليا ،


4) لقد طبع تفسير أبي جعفر الطبري في القاهرة في 30 (ثلاثين) مجلدا !
5) ابن النديم ص 369/8 – 12 . وقد ذكره بالحرف الواحد ابن أبي أصيبعة ج 1 ص 235/13 – 17 . أما القفطي ، فذكره بشئ من التصرف (راجع ص 361) . وعنه أخذ ابن العبري (ص 297) . وقد ذكره PERIER ص 60 حاشية 1 .
6) راجع القفطي ص 361/14 .
7) راجع القفطي ص 361/13 .
8) أي : "طلب من أبي زكريا يحيى بن عدي أن ينقله" . ومعنى "نقل" في هذا العصر : "ترجم" . وفي اعتقادنا أن يحيى نقل الكتاب ونسخه .
9) هو كتاب "قاطيغورياس لأرسطو . راجع أندرس رقم 1/21 (ص 25) و 1/41 (ص 28) .
10) راجع ابن النديم ص 348/4 – 6 . أما القفطي ، فقد ذكر ذلك ، ولكنه حرف النص ولم يفهمه . قال : "وقال أبو سليمان المنطقي السجستاني : استنقل هذا الكتاب أبو زكريا يحيى بن عدي ، بتفسير الأفروديسي (يعني الإسكندر) في نحو ثلاث مائة ورقة" . فجعل يحيى بن عدي فاعلا ، لا مفعولا . راجع القفطي ص 35/10 – 12 .