٨٢ الفصل السادس

وهذه هي الطريقة التي اعتمدتها لجنة تحقيق كتاب "الشفاء" لابن سينا11.

يقول الدكتور صلاح الدين المنجد : "هذه الطريقة قد تطلق الحرية للناشر ، ولكن لا يؤمن معها الزلل ، إلا إذا كان الناشر متمكنا في معرفة مصنف الكتاب ، ولغته ، وأسلوبه ، ومعرفة الكتاب نفسه"12.

وفي رأينا أن هذه الطريقة صالحة ، إذا لم يوجد لا "دستور" المصنف ، ولا نسخة قديمة تفوق النسخ الأخرى في الجودة . فيضطر حينئذ المحقق إلى اختيار النص اعتمادا على عدة نسخ . وهذا أمر صعب ، يتطلب معرفة جيدة للمصنف وللكتاب .

وخلاصة القول أن لكل حالة طريقة خاصة :

1- فالطريقة الأولى لا تصلح إلا إذا كان لدينا "دستور" المصنف .
2- والطريقة الثانية لا تصلح إلا إذا كان لدينا مخطوط ممتاز ، يفوق المخطوطات الأخرى في الجودة .
3- والطريقة الثالثة لا تصلح إلا إذا كانت المخطوطات كلها متساوية في الجودة .

2 – موقف المحقق من لغة النسخ المخطوطة

عند هذه المرحلة نواجه مشكلة جديدة . إذا افترضنا أن لدينا مخطوطة واحدة ، وكانت خاطئة ، أو أن بعض المخطوطات التي بين أيدينا اتفقت على نفس الغلطة ، لا سيما إذا كانت تلك الأغلاط لغوية ، فما العمل ؟ هل علينا اتباع المخطوطات الخاطئة ، أم علينا تنقيحها ، وإن اتفقت على الخطأ ؟

أ – منهج التحقيق عند الشرقيين والمستشرقين

اختلف المحققون في حل هذه المشكلة . أما في الغرب ، فتركوا عادة النص بعلاّته . وأما في الشرق ، فالعُرْف جار على تنقيح المخطوطات .

إلا أن بعض الشرقيين قد تبعوا المستشرقين في هذا المنهج . فقال مثلا المؤرخ كامل صالح نخله : "لم نحاول تنقيح أصول الكتاب ، ولا تحسين الأسلوب ، وحتى الغلطات اللغوية تركنا معظمها على حالها ، حتى لا تفقد النصوص التاريخية روحها القديمة التي كتبت بها . [...] . فهذا هو الأسلوب الأصلي للمخطوط ، لذلك لم نستبح تعديله"13.

ونتيجة هذا المنهج أن النصوص العربية المسيحية جاءت مشوهة ، ينفر منها القارئ .


11) راجع ابن سينا : "كتاب الشفاء – المنطق" ، تحقيق الدكتور إبراهيم مذكور (القاهرة 1953) ص 38 – 42 . راجع تلخيص رأيه في صلاح الدين المنجد ص 9 – 10 .
12) راجع صلاح الدين المنجد ص 17 رقم 12 .
13) راجع كامل صالح نخله (انظر الحاشية الأولى من هذا الفصل) ص 176 .
منهجنا في تحقيق النص ٨٣

وقد احتج المستشرق الفرنسي جستون فيات Gaston WIET ، على هذه الطريقة14 ، ولكن بلا جدوى .

ب – هل للنصارى العرب لغة خاصة بهم ؟

وفي ظننا أن سبب اتباع هذا المنهج اعتقاد بعض المستشرقين أن للنصارى العرب أسلوبا خاصا في الإنشاء . بل ذهب البعض إلى القول بأن النصارى لم يحسنوا كتابة لغة الضاد ، حتى إنهم ، إذا وجدوا روايتين ، إحداهما خاطئة لغويا والأخرى صحيحة ، فضلوا الخاطئة ، لاعتقادهم أنها أقرب إلى لغة المؤلف !

فيا ترى ، من أين أتى هذا الاعتقاد الشاذ ؟ يبدو لنا أن له سبيين :

1 – الأول ، اعتمادهم على النصوص العربية المسيحية المترجمة في القرن الثامن والتاسع ، في دير مار سابا وفي دير طور سينا . ومعلوم أن لغة الترجمة قد تكون مشوهة ، لا سيما في بداية الأمر ، وأنها لا تؤخذ أبدا معيارا للغة القوم . فضلا عن أن هذه النصوص كلها ذات طابع شعبي ، إذ تحتوي على سير القديسين ، وميامر نسكية ، وأناجيل منحولة ، وغيرها من المؤلفات الشعبية ، ولا تجد فيها كتبا لاهوتية مثلا .

2 – والثاني ، اعتمادهم على المخطوطات المتأخرة ، التي نقلت أثناء عصر الانحطاط ، من القرن الخامس عشر إلى التاسع عشر . فهي فعلا مليئة بالتصحيف والتحريف والقلب وغيرها من الأخطاء ، ولا تمثل أبدا لغة الأصل . ولا شك أن هذه المخطوطات توجد بوفرة . وكلما أتيحت لنا الفرصة أن نقارن هذه المخطوطات المتأخرة (وهي للأسف الأغلبية!) بالمخطوطات المنسوخة في القرن الثالث عشر أو الرابع عشر الميلادي ، لا سيما عند الأقباط ، اتضح لنا أن هذا الناسخ ينقل نصا روحيا لنفسه ، لمنفعته الروحية الشخصية .15

فنشر المخطوطات إذا بالمحافظة على أخطائها الإملائية والإعرابية والنحوية وغيرها ، لا يعتبر تحقيقا لنص المصنف ، وإنما هو تحقيق لنص الناسخ !16


14) راجع G. WIET مادة "قبط" في الجزء الثاني من "دائة المعارف الإسلامية" ، الطبعة الفرنسية الأولى (ليدن وباريس 1927) ص 1048 – 1061 (هنا ص 1061) .
15) وقد يكون هناك سبب ثالث . وهو أن معظم المستشرقين الذين نشروا نصوصا عربية مسيحية لم يكونوا أساسا متبحرين في اللغة العربية وآدابها ، وإنما أتوا إليها عن طريق غير مباشر ، من خلال دراستهم للتراث اليوناني أو السرياني ، الخ . فتراهم مرتبكين أمام تلك النصوص . لذلك يفضلون نشر النص بعلاته ، لعدم استطاعتهم تنقيحه . وقد صرح لنا بعضهم بذلك .
16) قد ألقينا محاضرة ، أثناء "المؤتمر الدولي الأول للدراسات القبطية" المنعقد في القاهرة في ديسمبر 1976 ، عنوانها
Méthode d'édition des texts arabo-coptes أوضحنا فيها هذا الرأي ، ووافقنا عليه