١٠٨ الفصل الثامن

وسبب ذلك يرجع إلى اختلاف أعمق ، يوجد في معنى "الواحد" . فكيف يمكن توضيح معنى الثالوث ، إن لم يوضح أولا معنى الواحد ؟ وقد وعى إلى ذلك المفكرون النصارى ، وحاول بعضهم حل المشكلة بمجرد وضع تمهيد في هذا المعنى .

فقال أبو رائطة حبيب بن خدمة التكريتي ، وهو مفكر سرياني ، عاش في أواخر القرن الثامن وصدر القرن التاسع الميلادي ، في مقالة له في التوحيد والتثليث مخاطبا المسلمين : "... مع أننا ، وإن كنا وافقناكم في مقالتكم بأن الله واحد ، فما أبعد ما بين القولين ، فيما تظنون ونَصِف ! والشاهد على ما ذكرتُ : مخالفة صفتكم لوحدانيته صفَتَنا إياه"2

وكذلك افتتح يحيى بن عدي مقالته بقوله : "اختلف القائلون بوحدانية الخالق (تبارك اسمه!) ، في معنى وحدانيته (تعالى عما يقوله الملحدون!)"3. ثم أخذ يعدّد هذه الآراء المختلفة ، التي يقول بها الموحدون .

ولم يذكر يحيى أبدا ، في مقالته ، لا المسلمين ولا المسيحيين ، وإن كان يقصد بلا ريب هاتين الفئتين . فعندما يقول : "فقال قوم : "إن الخالق (عز وتعالى !) واحد من كل حين ، لا يتكثّر من جهة من الجهات"4 ، يفهم القارئ أنه يعني المسلمين . وعندما يقول : "وقال آخرون : "بل هو واحد من جهة ، وكثير من جهة" 5 ، لا يشك أحد في أنه يقصد المسيحيين.

إلا أن عدم ذكره المسلمين والمسيحيين يدل على قصد مقالته . فهو لا يريد تأليف مقالة دينية أو لاهوتية ، بل مقالة فلسفية . ويكاد لا يستعمل كلمة "الله" ومرادفاتها (الخالق ، البارئ) ، مفضلا عبارة "العلّة الأولى" عليها . وذلك أوضح دليل على قصده وغرضه . وكذلك لم يستشهد أبدا بالكتب المنزلة ، وإنما استشهد فقط بأرسطوطاليس ، "الفيلسوف" . كما أنه لم يلفظ كلمة "التثليث" ، وإن كان قد عنى هذا المعنى في الفصل الحادي عشر . فجاء بحثه فلسفيا محضا .


2) راجع "رسائل حبيب بن خدمة ، المعروف بأبي رائطة التكريتي اليعقوبي" ، تحقيق جورج جراف
(Die Schriften des Jacobiten Habib Ibn Hidma Abū Ra’ita, coll. C.S.C.O. 130. Louvain 1951).
الرسالة الأولى : "في الثالوث المقدس" رقم 4 ، ص 4/17 – 5/2 .
3) راجع "التوحيد" رقم 3 .
4) راجع "التوحيد" رقم 11 .
5) راجع "التوحيد" رقم 12 .
يحيى والبحث عن معنى التوحيد ١٠٩

2 – رأي عليّ في وحدانية الخالق

ولم يكن المسيحيون وحدهم يتساءلون عن معنى الوحدانية ، بل المسلمون أيضا . وقد سُئل يوما عليّ (رضي الله عنه) عن معنى التوحيد ، فقال :

"إن القول بأن الله واحد ، على أربعة أقسام : وجهان منهما لا يجوزان على الله سبحانه ، ووجهان ثابتان له .
"فمن قال إن الله واحد ، وقصد باب العدد ، فهذا غير جائز . لأن ما لا ثاني له ، لا يدخل في باب العدد6.

"ومن قال إن الله واحد ، وأراد النوع أو7 الجنس ، فقوله أيضا باطل . لأن8 الله سبحانه منزّه عن نوع ، وعن جنس9.

"وأما الوجهان الصحيحان ، فقول القائل : إن الله واحد ، أي متفرّد10 عن الأشياء ، ومنزّه عنها11.

"أو قول القائل : إنه الله واحد أحد ، أي إنه لا ينقسم في وجود ، أو عقل ، أو وهم12.

"فكذلك الله ربّنا"13.


6) قارن هذا الرأي بالقول الأول (رقم 4) وإثبات بطلانه (فصل 2) ، وبالقول الثالث لبعض المتكلمين (رقم 6 – 8) وإثبات بطلانه (فصل 4) .
7) في النص المطبوع : "من" . وصححناه اعتمادا على ما جاء في الجملة التالية .
8) في النص المطبوع : "وإن" ، وهو مقبول . وإنما صححناه اعتمادا على ما جاء في الفقرة السابقة ، إذ يوجد توازن بين الفقرتين .
9) قارن هذا الرأي بما قاله يحيى في "التوحيد" ، رقم 243 – 249 .
10) في النص المطبوع : "تفرّده" .
11) قارن هذا الرأي بالقول الثاني : "إن معنى الواحد في الخالق هو أنه لا نظير له" (رقم 5) . وقد أبطل يحيى هذا الرأي ، في الفصل الثالث (رقم 25 – 80) .
12) إذا كان المقصود هنا هو أن الله واحد لأنه غير قابل للانقسام ، فقد نفى يحيى بن عدي هذا المعنى عن الخالق (رقم 255 – 261) . أما إذا كان المعنى هو أنه واحد حدّا ، فهذا هو المعنى الوحيد الذي قبله يحيى (رقم 267 – 268) .
13) ذكر هذا النص السيد مصطفى جمال الدين ، في مقال صغير عنوانه : "هذه المسيحية وهذه المحمدية : أليستا من جوهر واحد ؟" ، في مجلة "المسرة" 56 (1970) ص 689 – 695 (هنا ص 692) . وللأسف لم يذكر المؤلف المرجع الذي استخلص منه هذا النص .