١١٠ الفصل الثامن

فهذا الرأي ، وإن لم يكن مبنيّا على أساليب الفلاسفة ، إلا أنه محاولة لإدراك معنى "إن الله واحد" . فلا يكفي للمؤمن القول بأن الله واحد ، ولكن عليه أن يتفهم ما هو مكنون وراء العبارة ، للوصول إلى الإقرار والإيمان الحقيقي .

3 – تحليل الكندي لمعاني الواحد في الخالق

أ – المقالة التي وضعها الكندي

ولم يكن يحيى بن عدي أول من تكلم في التوحيد ، بين الفلاسفة العرب . فقد سبقه في ذلك المجال "فيلسوف العرب" الشهير ، أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي ، المتوفي نحو سنة 873 م . فقد ذكر ابن النديم أن له "كتاب الفلسفة الأولى ، فيما دون الطبيعيات ، والتوحيد"14. وهي اليوم مفقودة ، ولا نعلم شيئا عن محتوياتها . وله كذلك "رسالة في التوحيد ، بتفسيرات"15.

وقد ذكر له أيضا عبد اللطيف البغدادي مقالة في التوحيد(15ب) . وعلى ظننا أن هذه المقالة هي المذكورة في "فهرست" ابن النديم بعنوان "رسالة في افتراق المِلَل في التوحيد ، وأنهم مُجمعون على التوحيد ، وكلٌ قد خالف صاحبه"16.

وهذه الرسالة أيضا لا توجد اليوم . إلا أن أغلب الظن أن ما ذكره يحيى بن عدي ، في مقالته في "تبيين غلط أبي يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي ، في مقالته في الرد على النصارى"17 ، ما هو إلا جزء من رسالة الكندي المفقودة18.


14) راجع ابن النديم ص 358/3 . وأما أخبار الكندي ومؤلفاته ، فقد ذكرها ابن النديم من ص 357 إلى ص 365 .
15) راجع ابن النديم ص 363/3 .
15ب) على ما ذكره
PERIER ص 219 حاشية 7 .
16) راجع ابن النديم ص 363/5 – 6 .
17) نشر هذه المقالة أوغسطين بيرييه
PERIER في مجلة الشرق المسيحي 22(1920 – 1921) ص 4 – 14 ، مع ترجمة فرنسية (ص 15 – 22) . ثم أعاد نشر ترجمته الفرنسية ، مع بعض التعديلات ، في كتاب "مقالات يحيى بن عدي" (1920) ص 118 – 128 . إلا أن الطبعة سقيمة ، والنص في حاجة إلى إعادة تحقيقه . كما أن البطريرك أفرام برصوم أعاد طبع النص ، اعتمادا على طبعة بيرييه ، مع تعديلات بسيطة ، في "المجلة البطريركية السريانية" 6 (القدس 1939) ص 11 – 22 ، تحت عنوان : "رد العلامة يحيى بن عدي التكريتي السرياني الأرثوذكسي على فيلسوف العرب أبي يوسف يعقوب بن إسحق الكندي ، وهو دفاع عن صحة عقيدة التثليث" .
18) أول من انتبه إلى ذلك ، المستشرق الهولندي دي بور ، صاحب "تاريخ الفلسفة في الإسلام" . راجع
يحيى والبحث عن معنى التوحيد ١١١

والدليل على ذلك أن نص الكندي يبتدئ فجأة (على ما رواه يحيى بن عدي) بالجملة الآتية : "فأما القول في الرد على النصارى ، وإبطال تثليثهم ، على أصل المنطق والفلسفة ، وتمثّل [كذا] هذا القول من الاختصار ، فإن ذلك موجود على النصارى وغيرهم ، ممن تجاوز19 التوحيد وقال بالتكثير ، ولمن يتبعهم ويعتقد مذهبهم"20. وهذا الافتتاح المفاجئ يفترض لا محالة جزءا آخر قبله ، أو أجزاء أخرى . والأرجح أن هذه الأجزاء كانت تعرض آراء المِلَل الأخرى (غير مِلّة النصارى) في التوحيد ، على ما جاء في عنوان الرسالة .

إلا أن الكندي لم يتعمق في الموضوع الذي عالجه ، ولم يستقص معاني الواحد ، في رساته "في افتراق المِلَل في التوحيد" . لأنه اكتفى بذكر ثلاثة معان ، تلك المذكورة في كتاب "طوبيقا"21 ، وهي الواحد بالعدد وبالنوع وبالجنس ، ولم يذكر المعاني الأخرى .

ب – الواحد يُقال على ثلاثة وجوه

قال الكندي :

"أما قولهم "إن ثلاثةٌ واحدٌ وواحداً ثلاثةٌ" ، فهذا ظاهرُ الخطأ .

"وذلك أن ما نقول إنه هو هو واحد ، إنما نقول [إنه] واحدٌ22 بثلاثة وجوه ، كما قيل في كتاب "طوبيقا"23 ، وهو الخامس24.

1 – "إما أن يُقال هو هو واحد بالعدد ، كما يُقال للواحد هو هو واحد" .


Tjitze, J. de BOER, Kindī wider die Trinität, in: Orientalische Studien Theodor Nöldeke zum siebzigsten Geburtstag gewidmet (Giessen 1906), Bd. 1, p. 279-281.
19) راجع "الرد على الكندي" ص 4/4 – 5 .
20) في الطبعة : يجاوز .
21) راجع "طوبيقا" الكتاب السابع ، الفصل الأول
(Topica VII, 1, Bekker 152 b 30-32) . وانظر أيضا "ما بعد الطبيعة" الكتاب العاشر الفصل الثالث (Metaphysica X, 3, Bekker 105 a 32-b3) .
22) في المخطوطين (حسب
PERIER ) سقطت "إنه" . أما في الطبعة ، فلم يضف "إنه" ، ولكنه صحح "واحد" فأصبحت "واحداً".
23) وهو كتاب "الجدل" . نقله إسحاق بن حنين إلى السرياني ، ونقل يحيى بن عدي هذا النقل إلى العربي (راجع ابن النديم ص 349/2 – 3 ، والقفطي 36/17 – 19) .
24) أي الكتاب الخامس من كتب منطق ارسطوطاليس ، حسب الترتيب العربي التقليدي . راجع ابن النديم ص 347/18 – 21 . ويبدو أن الكندي هو الذي وضع هذا الترتيب ، فقد ألف "كتاب ترتيب كتب أرسطاليس " (ابن النديم ص 358/5 – 6). لاحظ أن
PERIER لم يترجم جملة "كما قيل في كتاب طوبيقا ، وهو الخامس" .