١١٤ الفصل الثامن

غفلة ، إن كنتَ لم تعرفْه ؛ وإما تغافلا ، إن كنتَ قد عرفتَه وتجاوزتَ ذكره . فإن الواحدَ والكثيرَ قد ينقسمان أيضا على وجه آخر .

"فإنه قد يكون الواحدُ واحداً في الموضوع ، وكثيرا في الحدود . أي يُصدّق عليه حدودٌ كثيرة ، عددُها بعدد المعاني التي توجد فيه ، التي هي حدودٌ لها . مثلَ ما يصدّق في زيد مثلاً43 ، وهو موضوعٌ واحد : حدّ الحيوان ، وحدّ الناطق ، وحدّ المائت44 . [...]45

"وقد يكون الواحدُ واحداً في الحدّ ، كثيرا في الموضوع ؛ كالإنسان أيضا . فإنّ حدّه ، من حيث هو إنسان ، حدٌ واحد ؛ وموضوعاته التي توصَف به كثيرةٌ ، كزيدٍ وعبد الله وخالد : فإنّ كلّ واحدٍ من هذه موضوعٌ لوصفه بالإنسان"46.

* * *

فقد لخّص يحيى ، في غاية الإيجاز ، الفصل السادس والسابع والثامن والتاسع والعاشر من مقالته في التوحيد ، في ردّه على الكندي ، لإثبات صحّة توحيد النصارى . وذلك بعد اثنين وعشرين سنة من تأليفه "المقالة في التوحيد" .

الخاتمة

أ – يحيى أول من أفرد بحثا شاملا في التوحيد

أجل ! لم يكن أبو زكريا يحيى بن عدي أول من تكلم في التوحيد بين الفلاسفة . فقد ذكر ابن النديم للفيلسوف الإسكندري أمّونيوس ، المتوفي نحو سنة 520م ، "كتاب حجّة أرسطاليس (!) في التوحيد47. وقد يكون يحيى استعان بهذا الكتاب ، كما استعان بغيره من مؤلفات أمّونيوس48.


43) في الطبعة : "مثالا" .
44) بخصوص هذه الققرة والتي تليها ، راجع "التوحيد" رقم 183 – 185 و 195 – 197 و 206 – 210 و 278 – 280 و 284 – 287 .
45) نترك هنا سطراً (ص 13/7 – 8) ، كما فعلنا في الحاشية رقم 42 ، لنفس السبب .
46) راجع "الرد على الكندي" ص 12/4 – 13/11 .راجع ابن النديم ص 355/6 – 7 .
47) راجع ابن النديم ص 355/6 – 7 .
48) قلنا إن يحيى نقل "كتاب الجدل" (المعروف بكتاب "طوبيقا") من السرياني إلى العربي (راجع الحاشية رقم 23) . ولما أخذ في تفسير هذا الكتاب ، استعان بما وجده من تفسير أمونيوس ، على ما ذكر ابن النديم : "قال يحيى بن عدي ، في أول تفسيره هذا الكتاب (= طوبيقا) : "إني لم أجد لهذا الكتاب تفسيرا لمن تقدم ، إلا تفسير الإسكندر لبعض المقالة الأولى ، وللمقالة الخامسة والسادسة والسابعة والثامنة ، وتفسير أمونيوس للمقالة الأولى والثانية والثالثة والرابعة . فعولت (لما قصدت في تفسيري هذا) على ما فهمته من تفسير الإسكندر
يحيى والبحث عن معنى التوحيد ١١٥

ولم يكن أيضا أول من تكلم في التوحيد ، بين المفكرين العرب ، إذ قد سبقه إلى ذلك : "فيلسوف العرب" ، أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي ، المتوفي نحو سنة 873 م .

ولكن ، إن لم يكن له فضل الأولوية ، إذ قد عاش قرناً بعد الكندي ، فله فضل التبحّر في الموضوع والتعمّق فيه والاستقصاء . فهو ، بلا جدال ، أول من أفرد بحثا شافيا شاملا عن معنى الواحد ، طبقا لفلسفة أرسطوطاليس ، على ما نعلم .

وأغلب الظن أنه لم يكن يدري برسالة الكندي "في افتراق المِلَل في التوحيد" ، عندما ألّف مقالته في التوحيد ، سنة 328ﻫ . وإلا ، لكان ردّ عليها ، أو أشار إليها ، ولم يكن ينتظر 22 سنة للرد عليها . وإنما نرجّح أنه وجد رسالة الكندي نحو سنة 350ﻫ ، فردّ عليها فوراً ، كعادته .

ب – مقالة يحيى في التوحيد ورسالة أبي رائطة التكريتي

وإذا قارنّا مقالة يحيى بن عدي في التوحيد بما جاء في رسالة أبي رائطة التكريتي ، أُسقف السريان ، الذي كتب مؤلفاته بين سنة 813 م وسنة 827 م49 ، أدركنا علوّ شأن يحيى . مع العلم أن أبا رائطة لم يكن يجهل الفلسفة ، إذ كان هو نفسه ناقلا لمؤلفات اليونان إلى اللغة العربية ، على ما ذكر ابن النديم50.

قال أبو رائطة للمسلمين ، في مقالته في التثليث : "فهل تقولون إن الواحد يُقال إلا على ثلاثة أوجه : "إما في الجنس ، وإما في النوع ، وإما في العدد ؟"51.


وأمونيوس ، وأصلحت عبارات النقلة لهذين التفسيرين" . والكتاب بتفسير يحيى : نحو ألف ورقة" (ابن النديم 349/4 – 10 = القفطي 37/1 – 7) . والمقصود هنا أمونيوس بن هرمس (AMMONIOS HERMIAE) وهو فيلسوف يوناني من أثينا ، فسر الكثير من كتب الفلسفة والعلوم القديمة ، وزها نحو سنة 550م . راجع "دائرة المعارف البريطانية" Encyclopaedia Britannica, 15th ed. (London, 1978), vol. 1, p. 319 bc.
49) راجع جراف ج 2 ص 222 – 227 .
50) راجع ابن النديم ص 341/8 . وهذا الفصل عنوانه : "أسماء النقلة من اللغات إلى اللسان العربي" ، في الفن الأول من المقالة السابعة . وجاء اسمه عند ابن النديم "ابن رابطة" ، وهو تحريف . ولم يع جراف (ولا أحد ، في علمنا) إلى أن المذكور عند ابن النديم هو هو أبو رائطة التكريتي) .
51) راجع "رسائل حبيب بن خدمة ، المعروف بأبي رائطة التكريتي اليعقوبي" ، تحقيق جورج جراف
(Die Schriften des Jacobiten Habib Ibn Hidma Abu Ra’ita, .coll. C.S.C.O. 130, Louvain 1951).
الرسالة الأولى : "في الثالوث المقدس" ص 5/6 – 7 .