١٢٦ الفصل التاسع

أكثرهم45"46.

فكما أن "إيساغوجي" فرفوريوس هو الأساس المشترك بين مفكّر ومفكّر ، حتى إن الكندي اتخذه منطَلَقا للرد على النصارى ؛ كذلك "المقالة في التوحيد" هي القاعدة المشتركة بين كل موحّد وموحّد ؛ حتى تكون نقطة انطلاق للحوار بين المؤمنين .

ثالثا – تطور فكر يحيى الفلسفي
في تفهّم معنى التثليث

قلنا إن "المقالة في التوحيد" هي مدخل إلى علم التثليث . وفي الحقيقة ، أن الأجزاء الثلاثة الأولى من المقالة (فصل 1-10) هي "المدخل" ، وهي التي تمثّل كنه المقالة .

1 – ثلاثية الجود والحكمة والقدرة

أما الجزء الرابع والأخير ، فهو مجرد محاولة فلسفية لشرح الثالوث . نعم ، إن أبا زكريا يحيى لم يذكر الثالوث أبدا في مقالته . لكن القارئ المسيحي يفهم ، من خلال عرضه للموضوع ، أن الجوّاد هو الآب ، وأن الذي يتّصف بصفة الحكمة هو الابن ، والذي يتّصف بصفة القدرة هو روح القدس . وهذه نظرية فلسفية لتقديم الثالوث ، ليس إلا .

وكثيرا ما قدّم المفكرون المسيحيون نظريات ، حاولوا من خلالها توضيح معنى الثالوث . فنرى عبد المسيح الكندي مثلا (نحو سنة 830 م) يقدم الله بصفته "جوهر ، حيّ ، عالم" ، ؛ وبولس الأنطاكي بأنه "شئ ، حيّ ، ناطق" ؛ وإيليا النصيبي بأنه "جوهر ، حيّ ، حكيم" أو "جوهر ، حيّ ، ناطق" (وكذلك ابن المؤمّل) ؛ ويقول محيي الدين الإصفهاني إنه "كائن ، عالم ، حيّ"" ، وغيرها من الثلاثيات . فكلها محاولات فلسفية . ولا يظن أحد من هؤلاء المفكرين أن هذه الثلاثية التي يقدّمها هي الثالوث . وإنما يقدّمها للقارئ (لا سيما للقارئ المسلم) ، ليقرّب الثالوث إلى مفهومه .


45) لم يفهم المترجم هذه الجملة الأخيرة . فقال : "C'est done à ce livre que nous avons emprunté les critiques faites aux Chrétiens et auxquelles ne peuvent guère échapper les posiions prises par la plupart d'entre eux"
راجع "مقالات يحيى بن عدي" ص 124/23 – 25 . وقد أساء فهم كلمة "منازل" ، فضاع المعنى . ولا يخفى على القارئ خطورة هذه الجملة ، إذ تدل على أنه لا يكاد يخلو منزل من منازل النصارى من كتاب "إيساغوجي" فرفوريوس . وهذا بشهادة الكندي "فيلسوف العرب" . مما يؤكد اهتمام النصارى ، في عصره (منتصف القرن التاسع الميلادي ، عصر حنين بن إسحق) ، بأمور الفلسفة والمنطق .
46) راجع "الرد على الكندي" ص 10/15 – 18 .
مكانة "المقالة في التوحيد" في فكر يحيى بن عدي ١٢٧

وكذلك فعل يحيى بن عدي ، فقدّم ثلاثية الجود والحكمة والقدرة ، كي يمهّد الطريق أمام المؤمن ، لا سيما إن كان غير مسيحي . وهذا هدف الجزء الرابع من مقالته .

2 – أصل هذه الثلاثية

من أين اقتبس يحيى بن عدي هذه النظرية ؟

في رأينا ، أن هذه الثلاثية ترجع إلى "كتاب الثَوُلوجيا" ، الذي تُنسب ترجمته إلى أبي عثمان الدمشقي47 . واسم الكتاب الأصلي Στοιχείωσις Θεολογική. أمّا صاحبه ، فهو الفيلسوف الأفلاطوني المُحدَث (néoplatonicien) ، برقلس (PROCLUS DIADOCHUS) ، الذي وُلد سنة 412 م ، وتُوفي سنة 485 م48.

فقد أثبت برقلس ، في القول 121 من كتابه ، أن الثلاثية (TRIADE) الإلهية الأولى تتألف من "الجود والقدرة والعلم" 49 (άγαθότης δύναμις γνωσις) ، وهي شبيهة


47) هو أبو عثمان سعيد بن يعقوب الدمشقي ، تلميذ حنين بن إسحق . كان طبيبا مشهورا في بغداد ، حتى إن الوزير عليّا بن عيسى عيّنه ، سنة 302ﻫ/914م ، مديرا لبيمارستان بغداد . وترجم أيضا أبو عثمان عدة مؤلفات فلسفية ورياضية . راجع ابن أبي أصيبعة ج1 ص 205 و 234 ؛ وبروكلمن ملحق 1 ص369 – 370 وملحق 3 ص 1204/6 – 11 .
48) لقد قدم الأستاذ أندرس بحثا شافيا عنه ، عنوانه : "مقتطفات عربية من كتاب برقلس الأفلاطوني ، المعروف بكتاب مبادئ الإلهيات" (بيروت 1973) . وعنوانه باللغة الألمانية:
Gerhard ENDRESS, Proclus Arabus. Zwanzig Abschnite aus der Institutio Theologica in arabischer Uebersetzung, (Coll. Beiruter Texte und Studien, Band 10 (Beirut 1973) (348 + 12 + 20 p.).
ويذهب أندرس إلى أن المترجم هو يحيى بن البطريرك ، لا أبو عثمان الدمشقي . وذلك لأن لغة المقتطفات المنشورة في كتابه أقرب إلى لغة يحيى منه إلى لغة أبي عثمان .
49) راجع
E. R. DODDS, Proclus. The Elements of Theology (Oxford, 2d., 1963), p. 264.
يقول ، في تفسيره للقول
(proposition) 121: “Goodness, Power and Knowledge constitute the primary divine triad (Theologia Platonica I. XVI 44), which prefigures in a seminal form the triad of the second hypostasis, Being, Life and Intelligence (Inst. Theol., prop. 101)"
راجع أيضا
Paul BASTID, Proclus et le crépuscule de la pensée grecque (Paris, Vrin, 1969), p. 253: "Le divin tout entire a une substance qui est bonté, une puissance qui a le caractére d'unité et une connaissance secréte et incompréhensible pour tous ses derives réunis (prop. 121)” (c'est nous qui soulignons).
فمن هذه الثلاثية الإلهية الأولى تتولد ثلاثية ثانية ، مؤلفة من "الوجود والحياة والعقل" ، على ما ذكر
DODDS