١٣٤ الفصل التاسع

فالعلاقة الوحيدة بينهما هي ... قلة تقديرهما للكلام والمتكلمين80 . وقد اشتهر الرازي بموقفه ضد المتكلمين81 ، كما أنّا رأينا موقف يحيى بن عدي منهم .

* * *

ويُخيّل لنا أنا نجد صدئ لموقف يحيى تجاه المتكلمين في مقالتنا في التوحيد . فهو يذكرهم مرة واحدة ، فيقول : "وسمعت رجلا من متكلمي عصرنا يقول : "إن معناه والوجود له ، هو أنه واحد بمعنى مبدأ العدد""82.

ويعلّق على هذا الرأي بقوله : "ولا أعرف لهذا الرجل موافقا في هذا الرأي . ولا بلغني ، عمّن تقدّم من أولي المذاهب ، مَن اعتقد هذا"83. ولا يخلو هذا التعليق من شئ من عدم التقدير.

الخاتمة

وخلاصة القول أن يحيى بن عدي فيلسوف محض ، طريقته عكس طريقة المتكلمين . بل إن "الكلام" في رأيه لا يُعتبر علما ، كما يتضح من مثله عن "البدوي القحّ"84. أما يحيى ، فهو منطقي في كلامه ، بل لُقّب ﺒ "المنطقي" ! وكما قال الصفيّ ابن العسّال : "والفيلسوف أحدّ دهاء وأكثر علما من المتكلم"85. ومقالتنا في التوحيد أحسن بيان لما قلناه هنا .


80) هذا رأي الأستاذ جيرهارد أندرس . وما قرأنا من مؤلفات يحيى بن عدي يؤيده . راجع ENDRESS ص 6 .
81) راجع "الطب الروحاني" ، طبعة
Paul KRAUS ص 43 – 44 .
82) مقالة في التوحيد رقم 6 .
83) مقالة في التوحيد رقم 7 .
84) راجع القول الثالث الذي ذكره أبو سليمان السجستاني (أعلاه ص 130) .
85) راجع أعلاه رقم 3 (ص 133) وحاشة 76 .
  ١٣٥

الفصل العاشر

يحيى بن عدي ومقالته في التوحيد
في الفكر العربي

إذ قد وصلنا إلى نهاية بحثنا ، لا بد لنا من أن نُلقي نظرة شاملة ، ولو عاجلة ، على صاحبنا ؛ فنتساءل : "هل ترك يحيى بن عدي أثرا بعد وفاته ؟" . لا سيما وأنّا لاحظنا أنه أحيط بشئ من الإهمال والنسيان في أيامنا هذه !1

ولكي نجيب على هذا السؤال ، نقسمه إلى قسمين : الأول يبحث عن أهمية فلسفة يحيى بن عدي في الفكر العربي ، والثاني عن أهمية "المقالة في التوحيد" في الفكر العربي . ولما كان بحثنا خاصا ، لا عامّا ، رأينا أن نعطي للمسألة الثانية القسط الأكبر من درسنا .

أولا – أهمية فلسفة يحيى بن عدي
في الفكر العربي

1 – يحيى أستاذ جماعة من الأساتذة

إنّ ليحيى فضلا عظيما على الفلسفة العربية . فقد كوّن مجموعة من التلامذة ، أصبحوا هم بدورهم أساتذة العرب ، ثم أصبح تلامذتهم أساتذة ، شرقا وغربا . وهلمّ جرّاً2.

فقد أسّس إذاً يحيى مدرسة فكرية ، عُرفت ﺒ "مدرسة بغداد الأرسطوطالية"3 ، استمرّت بعده أجيالا . وإن لم يكن ليحيى بن عدي فضلٌ آخر سوى هذا ، لكان استحقّ منّا أجمل ثناء وحمد !

فإنّ أبا زكريا ، بعد أن كان "أفضلَ تلامذة أبي نصر" الفارابي ، حسب تعبير


1) راجع "التصدير" ، ص 19 – 20 .
2) راجع ما ذكرناه عن بعض تلامذة يحيى بن عدي ، في الفصل الأول من بحثنا (ص 31 – 33) .
3) وقيل أيضا "مدرسة بغداد النصرانية" . راجع مثلا مقال براون
BROWN ، المذكور في قائمة الكتب (bibliographie) تحت رقم 103: Avicenna and the Christian Philosophers in Baghdad