٥٢ عقيدة الثالوث القويمة

المار ذكره إنما هو في الظاهر فقد قلنا يجوز أن نعتبر للتجسد أيضا وجهة باطنة ووجهة ظاهرة . فالوجهة الزمنية هي حقيقية بقدر ما الزمن هو حقيقي . والوجهة الأبدية لا يستطيع أحد إدراكها . وإذا حاول المسلم أن يتنصل من هذا المشكل بقوله أن الحوادث وأعمال الله وأقواله وأفكاره وإن وقعت في الزمن فإنها لا تؤثر في ذات الله أو فكره تعالى لأن جميعها كانت مدونة في اللوح المحفوظ أي أنها كانت في فكر الله منذ الأزل فلم يكن لها ماض ولا حاضر ولا مستقبل ـ نقول أن هذا التأويل لا يجدي فتيلا إذ لا بد للمسلم من التمييز بين وجود العالم خياليا في فكر الله تعالى ووجوده وجودا حقيقيا محسوسا وإلا فإن العالم أزلي كذات الله . وإذا سلم المسلم بوجود فرق صح القول بأن الله بعد أن أخرج العالم من حيز الفكر إلى حيز المحسوس قيد نفسه نوعا ما بقيود زمنية وما يترتب عليها من النتائج على الوجه المار ذكره .

وإذا ادعى المسلم أن الذات شئ والصفات شئ آخر وأن ذات الله منزهة عن الوقت حالة أن صفاته يجوز أن يكون لها تعلق بالحوادث بدون أن يمس ذلك بتنزهه تعالى ـ نقول أنه قد يمكن أن يكون في هذا الرأي شئ من الصحة ولكنه يتناول الفكر في

عقيدة الثالوث القويمة ٥٣

حد ذاته أي فكر الإنسان لا الإله فقط . فقد ذهب الفلاسفة إلى أن في ذات الإنسان شيئا منزها عن الزمن والدليل على ذلك أنه لو لم تكن الأعمال والأفكار والذات نفسها داخلة في الحيز الزمني لاستحال على الإنسان تمييز الحوادث ولتعذر عليه أن يفرق بين الأمور فيندفع إذ ذاك مع تيار الحيز الزمني بدون فكر أو إدراك كما تندفع أوراق الشجر بمجرى النهر . فلا بد إذا هنالك من وجود نقطة ثابتة منزهة عن الزمن تمكن الإنسان من تمييز ما هو غير ثابت ولا بد له من موقف منزه عن الزمن ليدرك به الزمن . وما يصدق على الله يصدق أيضا على روح الإنسان . وهذا الفكر يعين على إدراك عقيدة التجسد إذ أنه يثبت أن في الإنسان اعتبارا غير زمني هو أساس ذاته ولعله كان حلقة الاتصال بين الطبيعتين الإلهية والزمنية في شخص الكلمة المتجسدة يسوع المسيح .

والخلاصة أن التجسد هو وجهة خاصة من وجوه المشكلة العامة بل إنما هو من توابع الترتيب الذي تنازل الله بموجبه فقيد نفسه عند خلقه العالم وسنه ناموسا لإرادته.