٥٨ معجزة القرآن

و فى ( القصص ) ، التاسعة و الاربعين ، يقص عليهم سيرة موسى ، " فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا : لولا أوتى مثل ما أوتى موسى ! – أو لم يكفروا بما أوتى موسى من قبل ؟ قالوا : سحران ( ساحران ) تظاهرا ! و قالوا : إنا بكل كافرون ! – قل : فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه ، إن كنتم صادقين " ( 48 – 49 ) . هذا مطلع التحدى بالقرآن ، و فى آية ( القصص 49 ) معنى تحدى العرب بإعجاز القرآن : إنه تحدى بالهدى ، لا بالنظم و البيان ، كما يتوهمون و يوهمون . لكن " الكتاب " فى هذا " الهدى " هو القرآن سواء : " أهدى منهما " . فالتحدى موجه للمشركين ، لا للكتابين . فعلى ضوء هذا الاستفتاح بالتحدى بالقرآن ، يجب فهم قصة اعجاز القرآن العربى كلها . و سنرى أن القرآن فى " الهدى " تابع للكتاب إماما له : " و من قبله كتاب موسى إماما و رحمة ، و هذا كتاب مصدق لسانا عربيا " ( الاحقاف 12 ، قابل هود 17 ) : فليس اعجاز القرآن معجزة له . و السورة تشهد باسلام " النصارى " قبل القرآن العربى ، و باسهامهم فى الدعوة القرآنية : " الذين اتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون ، و اذا يتلى عليهم قالوا : آمنا به ، انه الحق من ربنا ، إنا كنا من قبله مسلمين ! أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ، و يدرأون بالحسنة السيئة ، و مما رزقناهم ينفقون ، و اذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه و قالوا : لنا أعمالنا و لكم أعمالكم ، سلام عليكم لا نبتغى الجاهلين " (52 – 55 ) . قال الجلالان : " نزلت فى جماعة اسلموا من اليهود كعبد الله بن سلام ، و غيره من النصارى قدموا من الحبشة و من الشام " . تفسير متناقض من صريح الآية " إنا كنا من قبله مسلمين " . و اسلام نفر من اليهود أو من المسيحين لا يأخذ هذا التعبير الشامل ، و لا يمكن أن يقولوا : " إنا كنا من قبله مسلمين " و لا اليهود ، و لا المسيحيون أسهموا فى نشر الدعوة القرآنية بإعلان الايمان بها و الشهادة لها ، و احتمال " اللغو " أى " الشتم و الاذى من الكفار " لذلك ، و الانفاق فى سبيلها ، إنهم وحدهم النصارى من بنى اسرائيل ( الاعراف 157 ، الصف 14 ) الذين اسهموا بتلك الاعمال فى غنشاء الاسلام و ذابوا فيه . و ذوبانهم فى الاسلام اضاع معالمهم على المفسرين فخبطوا فيهم خبط عشواء . و اعلانهم " إنا كنا قبله مسلمين " شهادة بأن الاسلام اسلامهم ، و الدعوة القرآنية " نصرانية " . " أولئك يؤتون أجرهم مرتين " ، " لايمانهم بالكتابين " ( الجلالان ) . كانت آية ( النمل 91 ) إعلانا بانضمام محمد إلى " المسلمين " النصارى ، و جاءت آية ( القصص 53 ) إعلانا لانضمام النصارى إلى الدعوة القرآنية . على

معجزة القرآن ٥٩

ضوء هذا الواقع نفهم قوله المتواتر : " فلا تكونن ظهيرا للكافرين ، و لا يصدنك عن آيات الله بعد إذ أنزلت اليك ، و ادع الى ربك و لا تكونن من المشركين ، و لا تدع مع الله إلها آخر " ( 86 – 88 ) . يقصد " الكافرين " بدعوته من أهل الكتاب اليهود و المسيحيين ، و " المشركين " من العرب ، فقوله : " لا تدع مع الله إلها آخر " قد يعنى الشرك ، و هذا بعيد عن محمد ، و قد يعنى عبادة المسيح عند المسيحيين ، و هذا أقرب الى السياق . و النهى دليل على صراع المسيحية و النصرانية لاكتساب محمد و اله . على كل حال فآية محمد هى شهادة " النصارى " له ، لا المعجزة .

و فى ( الاسراء ) ، السورة الخمسين ، يأتى التحدى الأول و الأكبر بالقرآن : " قل : لئن اجتمعت الانس و الجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن ، لا يأتون بمثله ، و لو كان بعضهم لبعض ظهيرا " ( 88 ) . ان التحدى بالقرآن صريح شامل . لكن ما معناه ؟ تصاريح السورة عينها تدل عليه . فهو واقع بين تصريحين يحددان معناه . التصريح الاول يفيد ان المعجزات منعت عن محمد منعا مبدئيا مطلقا : " و ما منعنا أن نرسل بالآيات ، إلا أن كذب بها الأولون " ( 59 ) ، فمهما كان السبب ، فمبدأامتناع المعجزة على محمد قائم ، بنص القرآن القاطع . و بعد التحدى ( 88 ) يأتى الواقع المشهود ، فهم يعددون له أنواع المعجزات التى يطلبونها منه لأنها " سنة الأولين " و قالوا لن نؤمن لك حتى ... قل : سبحان ربى هل كنت إلا بشرا رسولا " ! ( 90 – 93 ) . انه الاقرار الواقعى المشهود بعجز محمد عن كل معجزة . و العلة التى يقدمها لتبرير عجزه ، كانت ايضا فى الانبياء السابقين ، فقد كان كل نبى أتى بمعجزة " بشرا رسولا " ، و أتى بالمعجزة دليل النبوة . هكذا يجمع القرآن الواقع المرير إلى المبدإ الخطير : عجز محمد عن معجزة ، و الامتناع المبدئى فيه لكل معجزة . و هذان المبدأ و الواقع يمنعان من اعتبار اعجاز القرآن معجزة . و لا يصح تفسير التحدى بالقرآن إلا أنه تحد " بالهدى " كما استفتح به ( القصص 49 ) و بما انه فى " الهدى " مع الكتاب سواء ، فهو تحد بالمشركين وحدهم ، بالاعجاز فى الهدى ، لا بالاعجاز فى البيان . لذلك ليست آيته المعجزة على اطلاقها ، بل شهادة " اولى العلم " النصارى له : " قل : امنوا به او لا تؤمنوا ! ان الذين اوتوا العلم من قبله ، اذا يتلى عليهم يخرون للاذقان سجدا " ( 107 ) . فالقرآن هو اسلام " أولى العلم " ، فهو دعوة " نصرانية " ، حتى سجود المسلمين فى الصلاة هو عادة " نصرانية " : " يخرون للاذقان سجدا " . و من " العلم " النصرانى لا يبلغ القرآن الا القليل :