٦٨ معجزة القرآن

( الحكمة ) و النبوة " على طريقة " النصرانية " يستعلى على المشركين من بنى قومه : " أم آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون " ( الزخرف 21 ) .

و فى ( الجاثية ) ، الخامسة و الستين ، نجد الصورة نفسها : " و لقد آتينا بنى اسرائيل الكتاب و الحكم ( الحكمة ) و النبوة ، و رزقناهم من الطيبات ، و فضلناهم على العالمين . و آتيناهم بينات الأمر ، فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ، إن ربك يقضى بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون . ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ، و لا تتبع أهواء الذين لا يعلمون " ( 16 – 18 ) . يقسم القرآن أهل مكة و الحجاز إلى " الذين لا يعلمون " و هم المشركون ، و إلى " الذين يعملون " أو " أولى العلم " أى أهل الكتاب ، ثم يقسم " أولى العلم " إلى " ظالمين " و هم اليهود ( العنكبوت 46 ) و إلى صالحين أو مقسطين ( آل عمران 18 ) أو " الراسخين فى العلم " ( آل عمران 7 ) و هم النصارى . " فالعلم المذكور فى القرآن هو اصطلاح يعنى حكمة الانجيل : فقد اختلف بنو اسرائيل الى طائفتين ، نصارى و يهود ( الصف 14 ) " من بعد ما جاءهم العلم ، بغيا بينهم " . و الله جعل محمدا " على شريعة من الأمر " ، أمر الدين ، باتباع " أولى العلم قائما بالقسط " ، " الراسخين فى العلم " ، الذين يقيمون التوراة و الانجيل معا ، و يدعون إلى دين موسى و عيسى معا ، هذا هو سبيل محمد ، و هذا هو الدين الذى شرعه الله : " ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ، و لا تتبع أهواء الذين لا يعلمون أنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا ، و ان الظالمين ( المشركين و اليهود ) بعضهم أولياء بعض ، ، و الله ولى المتقين " من العرب ، مع النصارى من بنى اسرائيل ( 18 – 19 ) . فبالكتاب و بشهادة أولى العلم المقسطين ، يتحدى المشركين ، لا بمعجزة و لا اعجاز .

فى ( الاحقاف ) ، السادسة و الستين ، يرجع الى الاستشهاد بالكتاب و أولى العلم على صحة رسالته و صحة دعوته . يستفتح ، كما فى سورة هذه الفترة ، بإعلان التنزيل فى الكتاب : " تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم " ( 2 ) . فيتمسكون بشركهم ، فيتحداهم : " ائتونى بكتاب من فبل هذا ، أو أثارة من علم ، إن كنتم صادقين " ( 4 ) . انه يتحداهم بالكتاب المنزل و بعلم أولى العلم النصارى : " قل : أرايتم إن كان من عند الله و كفرتم به – و شهد شاهد من بنى اسؤائيل على مثله فآمن و استكبرتم – إن الله لا يهدى القوم الظالمين ... و من قبله كتاب موسى إماما و رحمة ، و هذا كتاب مصدق لسانا عربيا ، لينذر الذين ظلموا

معجزة القرآن ٦٩

و بشرى للمحسنين " ( 10 – 12 ) . إن القرآن العربى هو من عند الله لثلاثة أسباب : أولا " شهد شاهد من بنى اسرائيل على مثله ": فمثل القرآن موجود عند النصارى من بنى اسرائيل، لذلك فالتحدى " بمثل " القرآن لا يقوم و لا يصح ، " فمثله " موجود فى عصر النبى . ثانيا " من قبله كتاب موسى إماما " فهو يتبع إمامه فى الهدى و البيان . ثالثا : " هذا كتاب مصدق ، لسانا عربيا " فلا فرق بين الكتاب و القرآن سوى اللسان العربى . فرسالة محمد ، بأمر ملاك الله فى غار حراء ، تقوم على نقل " الكتاب و الحكمة ، و التوراة و الانجيل " الى العرب ، " لسانا عربيا " ، يشرع لهم دين موسى و عيسى بلا تفرقة ، على طريقة " أولى العلم " ، النصارى من بنى اسرائيل ، و زعيمهم قس مكة ، ورقة بن نوفل .

و هكذا انتهى العهد الثانى بمكة بلا معجزة ، و لا اعجاز ، فقد " شهد شاهد من بنى اسرائيل على مثله " . و هاجر محمد إلى الطائف شريدا طريدا . فرده أهلها من عرب و يهود ، ردا غير جميل . فرجع الى مكة مستجيرا بأحد زعمائها . و رجع الى دعوته .

فى سورة ( الكهف ) ، التاسعة و الستين ، ظلوا يطالبونه ، لصحة دعوته ، بمعجزة ، لأنها " سنة الأولين " . يستفتح بتحذير النبى من اليأس : " قلعلك باخع ( مهلك ) نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث ، أسفا " ( 6 ) ، و يحرضه على متابعة رسالته بالتضامن مع الكتاب و اهله من أولى العلم المقسطين : " و اتل ما أوحى إليك من كتاب ربك ، لا مبدل لكلماته " ( 27 ) ، فالقرآن وحى من الكتاب المقدس ، لا مبدل لكلماته فى تفصيله و تعريبه ، " و اصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة و العشى يريدون وجهه " ( 28 ) فمحمد أمة واحدة مع " النصارى " . ثم يستعرض فشل الدعوة بسبب عجزه عن معجزة ، سنة الله فى النبوة : " و ما منع الناس أن يؤمنوا ، إذ جاءهم الهدى ، و يستغفروا ربهم ، إلا أن تأتيهم سنة الأولين ، أو يأتيهم العذاب قبلا " ( 55 ) . فالمعجزة حتى عند المشركين ، هى دليل الله الأوحد على النبوة لأنها سنة الأنبياء كلهم قبل محمد ، و عجز محمد الدائم عن معجزة هو سبب امتناعهم عن الايمان به و يدعونه . مع ذلك فهو يعلن إفلاسه عن معجزة تؤيده : " قل : إنما أنا بشر مثلكم يوحى الى إنما إلهكم اله واحد " ( 110 ) . فالقرآن دعوة كتابية " نصرانية " ، لكنها بدون معجزة . هذا ما يظهر أيضا من السورة التالية .

فى ( النحل ) ، السورة السبعين ، يجهر من جديد بانتمائه الى الكتاب و أهله من " أولى العلم المسلمين " . فى جدال المشركين يعلن : " فاسألوا أهل الذكر ، إن كنتم لا تعلمون