٧٦ معجزة القرآن

النصر معجزته : " فلم تقتلوهم ، و لكن الله قتلهم ! و ما رميت ، و لكن الله رمى " ! ( 17 ) . و الإشارة بذر الرماد فى وجه العدو علامة لبدء الغارة . فهل النصر فى معركة معجزة ؟ لم يقبل بها أهل المدينة ، " و اذا تتلى عليهم آياتنا قالوا : قد سمعنا ! لو نشاء لقلنا مثل هذا ! إن هذا إلا أساطير الأولين ! " ( 31 ) . فبعد التحدى كله بالقرآن لم يقتنعوا باعجازه . و يمعنون فى التحدى للنبى : " إذ قالوا : اللهم ، إن كان هذا هو الحق من عندك ، فامطر علينا حجارة من السماء ! أو ائتنا بعذاب أليم " ( 32 ) . فهم يستمسكون بمعجزة حسية على صحة النبوة ، كالأنبياء الأولين ، و لو كانت لهلاكهم .

و فى ( آل عمران ) ، الثالثة ، يأتى القول الفصل فى اعجاز القرآن كمعجزة : " هو الذى أنزل عليك الكتاب : منه آيات محكمات هن أم الكتاب ، و أخر متشابهات . فأما الذين فى قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ، ابتغاء الفتنة ، و ابتغاء تأويله . و ما يعلم تأويله إلا الله ، و الراسخون فى العلم يقولون : آمنا به ! كل من عند ربنا ، و ما يذكر إلا أولو الألباب " ( 7 ) . بهذه الآية ، تحت ضغط جدال اليهود فى القرآن ، نسخ القرآن نفسه معجزة اعجازه لفظا و معنى ، بيانا و تبيينا . فالتصريح الأول : بوجود المتشابه فى بيان القرآن يرفع صفة الاعجاز المعجز عن نظمه و بيانه . و التصريح الثانى : " و ما يعلم تأويله إلا الله " نسخ صفة الاعجاز المعجز فى تعليمه و تبيانه . فكتاب يعجز الخلق عن تأويله و فهمه لا يكون معجزا لهم . و من البديهة انه يبعد ان يخاطب الله عبادة بما لا طاقة لأحد من الخلق فى معرفته . و هناك خلاف فى قراءة الآية " و الراسخون فى العلم " – هل ( الواو ) للعطف أو للاستئناف . و الأكثرون على أنها للاستئناف . لكن هب ان " الراسخين فى العلم " معطوف على ( الله ) فى معرفة تأويل القرآن ، فيظل ذلك من شأن " الراسخين فى العلم " ، لا من شأن جميع المخاطبين بالقرآن ، و القرآن للعامة كلهم ، لا للخاصة وحدهم . فلا يكون القرآن معجزا لجميع الناس الذين لا يعلمون تأويله و فهمه . و حاشا لله أن يخاطب الناس بمعجزة لغوية لا سبيل لهم الى ادراكها . و قد فاتهم جميعا أن تعبير " الراسخين فى العلم " ( 7 ) هو اصطلاح قرآنى مثل " أولى العلم قائما بالقسط " ( 18 ) ، و هو كناية عن النصارى من بنى اسرائيل ، فهم وحدهم مع الله يعلمون تأويل القرآن ، أو على الاصح يسلمون به تسليما و يفوضون تأويله لله . و معنى الآية هو وصف موقف اليهود و النصارى من بنى اسرائيل تجاه القرآن فى المدينة : فإن كان اليهود من وراء المنافقين العرب ، " الذين فى قلوبهم زيغ ، يتبعون ما تشابه

معجزة القرآن ٧٧

منه ابتغاء الفتنة و ابتغاء تأويله " ، فإن النصارى و هم " الراسخون فى العلم يقولون : آمنا به ، كل من عند ربنا " . هذا هو استشهاده المتواتر بهم على صحة دعوته . و هكذا يبقى التصريح الضخم قائما : " و ما يعلم تأويله إلا الله " . و سنرى أن متشابه القرآن هو القرآن كله ما عدا آيات الاحكام ( الاتقان 2 : 2 ) . لذلك فليس اعجاز القرآن بمعجز و لا بمعجزة ، اذ فهمه و تأويله من اختصاص الله وحده . و آية محمد على صحة رسالته و دعوته تبقى النصر فى الحرب : " قد كان لكم آية فى فئتين التقتا ، فئة تقاتل فى سبيل الله ، و أخرى كافرة ، يرونهم مثيلهم رأى العين ، و الله يؤيد بنصره من يشاء ، إن فى لعبرة لأولى الأبصار " ( 13 ) ، " لقد نصركم الله ببدر و أنتم أذلة ، فاتقوا الله لعلكم تشكرون " ( 123 ) . منذ نصر بدر ، صارت آية النبى العربى تأييد الله له " بنصره " فى الجهاد و القتال ، و توارى الحديث عن المعجزة و الاعجاز .

و فى سورة ( محمد ) ، السادسة ، نرى صدى هذه المعجزة من نوع جديد فى ضمير المؤمنين : " و يقول الذين آمنوا : لولا نزلت سورة ! فإذا أنزلت سورة محكمة ، و ذكر فيها القتال ، رأيت الذين فى قلوبهم مرض ينظرون اليك نظر المغشى عليه من الموت . فأولى لهم طاعة و قول معروف " ( 20 – 21 ) . بسبب معجزة الجهاد كثر المنافقون فى المدينة . و حصلت موجة من الارتداد عن الاسلام : " إن الذين ارتدوا على أدرباهم ، من بعد ما تبين لهم الهدى ، الشيطان سول لهم و أملى لهم " ( 25 ) ، " إن الذين كفروا و صدوا عن سبيل الله و شاقوا الرسول ، من بعد ما تبين لهم الهدى ، لن يضروا الله شيئا و سيحبط أعمالهم " ( 32 ) . و نلاحظ على قوله : " فإذا أنزلت سورة محكمة " ( 20 ) الإقرار الضمنى بأن هناك سورا غير محكمة ، و غير معجزة ، كما ان " فيه آيات محكمات ، هن أم الكتاب ، و أخر متشابهات " ( آل عمران 7 ) .

و فى ( البينة ) ، التاسعة ، نرى أن معجزة " الحديد فيه بأس شديد و منافع للناس " لم يقبلها أيضا اليهود و لا المشركون : " لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب ( اليهود ) و المشركين منفكين حتى تأتيهم البينة " ( 1 ) . و البينة التى يطلبون هى " رسول من الله يتلو صحفا مطهرة ، فيها كتب قيمة ! – و ما تفرق الذين أوتوا الكتاب ( من اليهود ) إلا من بعد ما جاءتهم البينة " ( 2 – 4 ) . إن الخلاف على نوع البينة : فاليهود يرون فى الرسول الحق الموعود مطابقته للتوراة من دون الانجيل ، و القرآن يرى أنه أتى بالبينة ، و إن دعا إلى إقامة