٩٢ معجزة القرآن

و نأخذ عليه أيضا قوله : ان الله لم يؤيد محمدا بالخوارق لأنها " لم تصلح من قبله وسيلة للإقناع " . و الانجيل و النوراة شاهدا عدل على فساد هذه النظرية و على عدم مطابقتها لواقع النبوة : فقد قامت رسالة موسى و رسالة المسيح على المعجزة ، و بسبب المعجزة آمن بهما الناس على زمانهما و من بعدهما . هذا من حيث الايجاب . و من حيث السلب ، فالواقع القرآنى المكى شاهد عدل على أن أهل مكة تحدوا النبى طول العهد بمكة بالاتيان بمعجزة ليؤمنوا به : " لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتى رسل الله " ( الانعام 124 ) ، " فليأتنا بآية كما أرسل الأولون " ( الانبياء 5 ) ، " و أقسموا بالله جهد ايمانهم : لئن جاءتهم آية ليؤمن بها " ( الانعام 109 ) ، " و ما منع الناس أن يؤمنوا ... إلا أن تأتيهم سنة الأولين " ( الكهف 55 ) . ففى عرف القرآن و نصه القاطع ، ان المعجزة " سلطان الله المبين " الوحيد فى الشهادة لصحة رسالة أنبيائه و دعوتهم ( هود 96 ، المؤمنون 45 – 47 ، غافر 23 – 24 ) ، و أنها " سنة الأولين " فى النبوة و الدعوة ( الكهف 55 ، الأنبياء 5 ) .

3 – هذا ما وصل اليه أيضا الاستاذ دروزة ، فى فصل قيم موقف القرآن السلبى من كل معجزة . و ختم استشهاد القرآن بقوله : " ان حكمة الله افتضت أن لا تكون الخوارق دعامة لنبوة سيدنا محمد عليه السلام ، و برهانا على صحة رسالته و صدق دعوته – التى جاءت بأسلوب جديد : هو أسلوب لفت النظر الى الكون و ما فيه من آيات باهرة ، و البرهنة بها ... ثم اسلوب مخاطبة العقل و القلب ، فى الحث على الفضائل و التنفير من الرذائل ... و على اعتبار ان الدعوة التى تقوم على تقرير وجود الله و استحقاقه وحده للعبودية و اتصافه بجميع صفاتالكمال ، و على التزام الفضائل و اجتناب الفواحش ، هى فى غنى عن معجزات خارقة للعادة لا تتصل بها بالذات " ( سيرة الرسول 1 : 226 ) .

فالاستاذ دروزة يشهد بشهادة القرآن عينها " ان حكمة الله اقتضت أن لا تكون الخوارق دعامة لنبوة سيدنا محمد عليه السلام " . و نحن نكرر هذا الاعتراف الصريح الذى ينكر المعجزات مبدئيا وواقعيا فى الدعوة القرآنية و السيرة النبوية .

لكننا نأخذ عليه تبرير موقف القرآن السلبى من كل معجزة ، و تبرير حكمة هذا الموقف السلبى ، بأن الدعوة القرآنية " جاءت بأسلوب جديد " فى الدعوة و النبوة ، يرده الى ثلاث ظواهر :

معجزة القرآن ٩٣

1 ) " أسلوب لفت النظر الى الكون و ما فيه من آيات باهرة ، و البرهنة بها " كأن القرآن ابتدع هذا الاسلوب ، أو أعجز فيه أكثر من الكتاب و الحكمة و النبوة و الانجيل . أليس هذا الاسلوب هو أسلوب الأنبياء كأشعيا؟ أليس مزامير الزبور ، كتاب صلاة الاسرائيليين و المسيحيين ، على هذا الاسلوب ؟ أليس الذى أعجز فيه سفر الحكمة ، للرد على الفلسفة الاغريقية ؟ يكفيه أن يقرأ الانجيل بحسب متى ليرى أن المعلم المعجز فى هذا الاسلوب هو السيد المسيح . و فات الاستاذ أن هذا هو اسلوب الفلاسفة الموحدين ، و أسلوب جميع المتكلمين و الخطباء فى التوحيد : فهل هذا الأسلوب دليل النبوة عندهم ؟

2 ) " ثم أسلوب مخاطبة العقل و القلب " فى الترغيب و الترهيب . نجيب على الاستاذ دروزة بشهادة زميله الاستاذ عبد الله السمان 1 : " و أسلوب الدعوات الى الله يستوى فيه جميع الأنبياء و الرسل ، لأنهم جميعا تربط بينهم مهمة واحدة و هدف واحد ، و يشقون طريقهم الى قلوب الناس بأسلوب واحد ، هو تبشير المستجيبين منهم بسعادة الدنيا و نعيم الآخرة ، و إنذار المتمردين منهم بشقائهما . و محمد صلوات الله عليه واحد من الرسل ، و قد التزم هذا الاسلوب فى دعوته منذ بدايتها الى آخر لحظة من حياته : " ما يقال لك إلا ما قيل للرسل من قبلك ، ان ربك لذو مغفرة و ذو عقاب أليم " ( فصت 43 ) .

3 ) ان الدعوة التى تقوم على تقرير وجود الله ... و على التزام الفضائل و اجتناب الفواحش ، هى فى غنى عن معجزات خارقة للعادة لا تتصل بها بالذات " . هل يجهل الاستاذ دروزة أن جميع مؤلفات الموحدين و المصلحين ، من مؤمنين بالنبوة و كافرين ، تدعو الى التوحيد و الفضيلة ، فهل صاروا بها كلهم أنبياء ؟ و مؤلفات نوابغ الفكر الاسلامى و الفكر المسيحى كلها مما قرر : فهل كلها نبوءات ؟ و ما الذى يميزها عن دعوات النبوءات سوى المعجزات ؟ و ما الذى يميزها عن القرآن نفسه سوى اعجازه فى النظم و البيان ؟ أجل لقد فات السيد دروزة قول الإمام الجوينى الذى نقلناه فى مطلع كتابنا : " لا دليل على صدق النبى غير المعجزة . فإن قيل : هل فى المقدور نصب دليل على صدق النبى غير المعجزة ؟ قلنا : ذلك غير ممكن " . وجدلية الاستاذ دروزة كغيره منذ ابن خلدون هى المغالطة عينها : ليس المطلوب صحة قول النبى فى ذاته ، بل صدقه ان كلامه هو كلام الله ،


1 محمد ، الرسول البشر ، ص 52 .