١١٦ معجزة القرآن

هذا هو الواقع التاريخى . فليس الحادث فى نفسه معجزا . لكنه كان فى معناه عظيما : انه الفتح الأكبر الذى فتح الحجاز و الجزيرة للدين الجديد . فليس فى هذا الفتح الأكبر شىء من أركان المعجزة : فلا الحادث فى ظروفه خارق للعادة ، و لا تحدى به النبى دليلا على نبوته ، و لا هو سالم عن المعارضة فى تاريخ الفتوحات . و كلام الزعماء المسلمين الجدد فى هزيمة حنين يدل على أنهم لم يروا فى فتح مكة معجزة .

4 – معركة حنين

وصفها القرآن بقوله : " لقد نصركم الله فى مواطن كثيرة ، يوم حنين ، إذ أعجبتكم كثرتكم ، فلم تغن عنكم شيئا ، و ضاقت عليكم الأرض بما رحبت . ثم وليتم مدبرين . ثم أنزل الله سكينته على رسوله و على المؤمنين ، و أنزل جنودا لم تروها ، و عذب الذين كفروا ، و ذلك جزاء الكافرين " ( التوبة – براءة 25 – 26 ) .

تجمعت قبائل غطفان من الاعراب ، و قبيلة ثقيف من الطائف ، للذود عن نفسها فى وجه ملك النبوة الزاحف . و اجتمعوا فى وادى حنين ، يستقبلون جيشا يقوقهم عددا و عدة . ذلك أن المسلمين بلغوا اثنى عشرألفا ، بمن انضم إليهم من أهل مكة .

فلما توغلت المقدمة فى الوادى أمطرهم المحاصرون على جنباتة وابلآ من السهام.فارتاع المسلمون وولوا الأدبار .وركبت الإبل بعضها بعضا وهى مولية بأصحابها تطاردها خيل ثقيف وهوازن.

حينئذ انفجر ما فى القلوب . فقال أبو سفيان : لا تنتهى هزيمتهم دون البحر ! و قال كلدة بن الجنيد : ألا بطل السحر اليوم ! فأجابه صفوان بن أمية : صه ، فض الله فاك ، فوالله لئن يربنى رجل من قريش أحب إلى من أن يربنى رجل من هوزان . فالقصة فى نظرهم دولة لا نبوة .

فى هذه اللحظة التى فيها يتقرر المصير ، صعد محمد شرفا يحف به بعض المهاجرين و بعض أهل بيته و صاح : " هلموا إلى ! أن رسول الله ! أنا محمد بن عبد الله ! " .

ثم أمر العباس أن ينادى بصوته الجهير : يا معشر الانصار ، يا أصحاب البيعة يوم الحديبية ، فأدركه بعض الأبطال يشق الموج المتلاطم ، و قد اختلط القوم و ساد الهرج و المرج فى قعر الوادى.

معجزة القرآن ١١٧

ووسط هذه الفوضى أنقذ محمد و من حوله الموقف . فارتد المسلمون على المشركين و قد صاروا جمعيا فى وسط الوادى ، فهزموهم شر هزيمة .

و جاء وقت اقتسام الغنائم الكثيرة . فأجزل محمد العطاء لزعماء مكة لتأليفهم ، فسموا " المؤلفة قلوبهم " و خمس الرسول وزعه على الأعراب . فارتاحوا الى الاسلام و مكاسبه .

إنه لموقف بطولى فى الشجاعة و الكرم ! و لكن هل فيه معجزة ؟

قال الجلالان : " أعجبتكم كثرتكم : كانوا أثنى عشر ألفا ، و الكفار أربعة آلاف . فانهزم المسلمون أولا ، و ثبت النبى صلعم على بغلته البيضاء ، و ليس معه غير العباس و أبى سفيان . فردوا الى النبى لما نداهم العباس بإذنه " . موقف بطولى لكن ليس فيه من خارق المعجزات شىء .

قال البيضاوى : " و أنزل جنودا لم تروها – بأعينكم ، أى الملائكة ، و كانوا خمسة آلاف ، أو ثمانية ، أو ستة عشر ، على اختلاف الأقوال " . هذا أمر غيبى غير مشهود ، فلا يصح التحدى به . و ليس الملائكة بحاجة الى مثل هذا العدد الموهوم للقضاء على بشر !

فالنبى ، مثل كل مؤمن ينظر الى الأمور نظرة صوفية ، يرد كل شىء فى سيرته الى الله . و هذه المواقف البطولية يرى فيها يد الله ، و لكن ليس فى النص القرآنى ، و لا فى الواقع التاريخى ، من ركن من أركان المعجزة .

و القول الفصل فى معنى التأييد الربانى للنبى فى تلك المواطن الكبرى من الجهاد و القتال هو نظر القرآن المتواتر فيها : " فأرسلنا عليهم ريحا و جنودا لم تروها " ( الأحزاب 9 ) ، " و أنزل جنودا لم تروها " ( التوبة 26 ) ، " و أيده بجنود لم تروها " ( التوبة 40 ) . إن تأييد الله لمحمد كان " بجنود لم تروها " . فهذا التواتر فى التعبير يدل على رؤية صوفية " للتأييدات الربانية " فى سيرته و جهاده ، لا إلى معجزة مشهودة تحدى بها فوقعت كما تحدى بها . لذلك ليس فى النصر بمواطن كثيرة من شروط المعجزة ، و لا من معناها ، شىء . فنص القرآن القاطع " لم تروها " يقطع عليها سبيل المعجزة .

ثانيا : فلسفة القرآن فى الجهاد و النصر و الفتح

و هكذا فالنصوص القرآنية فى البطولات الجهادية ، حيث " نصرهم الله فى مواطن كثيرة " ، تشهد من ذاتها أنه لا معجزة فيها تحدى بها النبى للبرهان على صحة رسالته و صدق دعوته .