١١٨ معجزة القرآن

1 – لكن ميل القرآن إلى إسناد كل عمل إلى الله ، و هو المصدر و المعاد ، حمل بعض القوم الى رؤية معجزات فى موقف البطولات . و فلسفة القرآن فى الجهاد و النصر و الفتح تشابهت عليهم . فالقرآن نفسه أخذ نصر بدر ، بعد عجز محمد عن كل معجزة حسية ، و بعد نسخ اعجاز القرآن كمعجزة ( آل عمران 7 ) يعتبر آية " الحديد " أى السيف ( الحديد 25 ) آيته الكبرى فى رسالته .

لكن " من الجدير بالتنبيه أن آيات وقائع الجهاد النبوى قد نزلت بعد الوقائع ، مما يسوغ القول : ان الوقائع قد كانت بأمر النبى صلعم و رأيه ، و بدون وحى قرآنى كما هو شأن أكثر احداث السيرة النبوية " 1 . و هذا يخرج وقائع الجهاد من شروط المعجزة : التحدى بها قبل وقوعها .

كانت الدعوة بمكة ، على طريقة الأنبياء الأولين ، " بالحكمة و الموعظة الحسنة " ، فصارت الدعوة بالمدينة عسكرية بالجهاد . و تشريع الجهاد مع المبدأ : " لا اكراه فى الدين " لا ينسجمان . لنا على ذلك اسلام أهل مكة أنفسهم : فلم يسلموا إلا بالفتح العسكرى . لكن بعد ذلك صح إسلامهم و فتحوا الدنيا للإسلام .

2 – و فلسفة الجهاد فى القرآن ، لا تسمح أن نرى فيه معجزة .

يقول : " كتب عليكم القتال ، و هو كره لكم ! و عسى أن تكرهوا شيئا و هو خير لكم ، و عسى أن تحبوا شيئا و هو شر لكم ، و الله يعلم و أنتم لا تعلمون " ( البقرة 216 ) . فكانوا يكرهون قتال قومهم .

و يقول : " فلما كتب عليهم القتال ، إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله ، أو أشد خشية ! و قالوا : ربنا ، لم كتبت علينا القتال ؟ لولا أخرتنا إلى أجل قريب " ؟ ( النساء 77 ) . فلو كان فى الجهاد معجزة إلهية لما خشى بعضهم الناس كخشية الله أو أشد خشية !

و يقول و يكرر : " و الفتنة أشد من القتل " ( البقرة 191 و 217 ) ، " و قاتلوهم حتى لا تكون فتنة و يكون الدين لله " ( البقرة 193 ) . إن اتقاء الفتنة فى الدين يكون بالإيمان لا بالقتال .


1 دروزة : سيرة الرسول 2 : 221
معجزة القرآن ١١٩

بدأ العهد فى المدينة بقوله : " لا اكراه فى الدين " ( البقرة 256 ) ، و ختمه بعد الفتح مكة بقوله : " براءة من الله و رسوله الى الذين عاهدتم من المشركين : فسيحوا فى الأرض أربعة أشهر ، و اعلموا أنكم غير معجزى الله ، و أن الله مخزى الكافرين ... فإذا انسلخ الأشهر الحرام ، فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ... " ( التوبة – براءة 1 – 2 و 5 ) . فلم يشرع الجهاد للدفاع فقط ، بل للهجوم أيضا و فرض الدين ، حتى التبرئة من كل عهد مع المشركين .

فقد فرض القتال ليظهر الاسلام على الدين كله : " هو الذى أرسل رسوله بالهدى و دين الحق ليظهره على الدين كله ، و كفى بالله شهيدا " ( الفتح 28 ) ، " هو الذى أرسل رسوله بالهدى و دين الحق ليظهره على الدين كله ، و لو كره المشركون " ( الصف 9 ، التوبة 33 ) . يتم هذا الاظهار بالجهاد و الفتح ، مع الدعوة بالقرآن . هذه هى فلسفة الجهاد فى القرآن : فهل فيها معجزة إلهية ؟

3 – ثم يقرن فلسفة الجهاد بفلسفة النصر و الفتح : " يا أيها الذين آمنوا ، هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم ؟ تؤمنون بالله و رسوله ، و تجاهدون فى سبيل الله بأموالكم و أنفسكم ... يغفر لكم ذنوبكم و يدخلكم جنات تجرى من تحتها الأنهار ، و مساكن طيبة فى جنات عدن . ذلك الفوز العظيم . و أخرى تحبونها نصر من الله ، و فتح قريب . و بشر المؤمنين " ( الصف 10 – 13 ) . الجهاد يفتح السماء ، و يفتح الأرض ، مع غنائم فى الدارين . هذه هى البشرى للمؤمنين . فالغنائم كانت هدفا من أهداف الجهاد ، و تجارة دينية رابحة .

و يقول : " و لقد نصركم الله ببدر و أنتم أذلة : فاتقوا الله لعلكم تشكرون " ( آل عمران 123 ) . فالنصر من الله يرفع الذل عن المسلمين ، و يوجب " الرضاء عليهم بقسمة الغنائم ، أو بتعبير أدق بفرز الخمس منها " لله والرسول 1 ، " و ان الآيات تلهم أن الخلاف فى صدد لغنائم ، إنما كان على فرز الخمس أكثر منه على طريقة التوزيع و مقداره ، لأن الكلام فيها مصبوب على ذلك ، و أكثر ما جاء فى صدد نصر الله و تأييده قد استهدف تشريع الخمس و ايجاب قبوله و الرضاء به " . و يظل الفىء كله – أى ما استحوذوا عليه بدون قتال – الرسول وحده .


1 دروزة : سيرة الرسول 2 : 267 ، 271