١٢٦ معجزة القرآن

و فى سورة ( الحج ) ، " الآيات البينات " ليست المعجزات ، بلا آيات القرآن : " و كذلك أنزلناه آيات بينات ، و إن الله يهدى من يريد " ( 16 ) ، فلا يقبلونها كمعجزة : " و إذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف فى وجوه الذين كفروا المنكر " ( 72 ) ، " سعوا فى آياتنا معاجزين " ( 51 ) ، لأنها أقوال بيانية ، لا معجزات حسية يطلبونها منه فمثل الأنبياء الأولين .

و ظل حتى النهاية لا يعطى فى " الآيات البينات " سوى أقوال بيانية لا معجزات عملية كالأنبياء الأولين : فالمشركون " اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا فصدوا عن سبيله " ( التوبة 9 ) ، " و يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبأهم بما فى قلوبهم ! – قل : استهزئوا ، إن الله مخرج ما تحذرون ، و لئن سألتهم ليقولن : إنا كنا نخوض و نلعب ! – قل : أبالله و آياته و رسوله كنتم تستهزئون " ؟ ( التوبة 64 – 65 ) .

و هكذا فأهل مكة و المدينة و العرب أجمعين لم يروا فى " الآيات البينات " فى القرآن سوى أقوال خطابية من سحر البيان ، لا أعمالا معجزة كالأنبياء الأولين .

و القرآن نفسه لا يعطى " آياته البينات " كمعجزات حسية ، بل " تنزيل الكتاب " . لكن تواتر المعانى الثلاثة فى تعبير " الآيات البينات " هو الذى القى عليها شبهة المعجزات .

قبل سورة ( آل عمران ) قد يفهم التشابه فى التعبير القرآنى . لكن بعد ان صرح أن فى القرآن آيات " متشابهات " ( آل عمران 7 ) ، ما كان له أن يبقى على التشابه فى معنى " الآيات البينات " .

و هذا التشابه المتواتر فى القرآن كله لمعنى " الآيات البينات " ، هو الذى جعل بعضهم يشتبه بين المعجزة و بين الخطابة و البيان . لكن ، ليس فى " الآيات البينات " التى ينسبها القرآن إلى نفسه أو إلى نبيه ، من معجزات حسية كالأنبياء الأولين . إنما هى أقوال فى الهدى و البيان . و ما كان لمحمد أن يأتيهم بمعجزة كالأنبياء الأولين ، فإن المعجزات قد منعت عنه منعا مبدئيا قاطعا ( الاسراء 59 ) . و قد أقر القرآن نفسه بتعجيز محمد و عجزه عن كل معجزة ( الانعام 35 ) .

  ١٢٧

بحث سادس

موقف القرآن السلبى من المعجزة ،
و فلسفته عند أهل عصرنا

لقد ثبت ثبوتا قاطعا للعلماء المسلمين موقف القرآن السلبى من كل معجزة تشهد له . و ثبت أيضا أن ما ورد فى الحديث و السيرة من معجزات لمحمد ينقضه صريح القرآن نقضا مبرما ، و أن ما رأوا من معجزات فى الجهاد كان بطولات لا معجزات ، و أن ما ذكره القرآن من " آيات بينات " فيه هى آيات خطابية ، لا أعمال معجزة . فمن يرى فى ذلك معجزة يكذب على النبى ، و القرآن يكذبه .

و برز لعلماء عصرنا المشكل الضخم ، ما بين ضرورة المعجزة لصحة النبوة ، و بين موقف القرآن السلبى من كل معجزة له . فكان لابد لهم من فلسفة ، فلم يجدوا سبيلا إلا بنقض احدى المقدمتين من القياس ، ليسلموا من حتمية النتيجة أن النبوة المحمدية بلا معجزة . فسار بعضهم على خطة أهل الاعجاز ان " القرآن وحده معجزة محمد " ، متناسين قول المعتزلة " ان اله لم يجعل القرآن دليلا على النبوة " ، و بعضهم رأى الخلاص بنقض المقدمة الكبرى : ليست المعجزة بلازمة لصحة النبوة ، و قد جاء القرآن بما يغنى عنها ، بل بأفضل منها .

و نحن ندرس فى هذا البحث أولا تاريخ فلسفة أهل العصر فى النبوة و المعجزة ، ثانيا عرض نظرياتهم الجديدة فى " أساليب القرآن الجديدة " فى النبوة ، التى تقوم مقام المعجزة . و قد نلجأ الى تكرار بعض الاستشهادات للتذكير و التقرير ، و لإعطاء نظرة شاملة جامعة .

أولا : من تاريخ فلسفة أهل العصر فى النبوة و المعجزة

1 – بدأ النقد الذاتى الحر الجرىء ، تجاه تحديات العلوم القرآنية و التاريخية فى عصرنا ، الاستاذ حسين هيكل فى ( حياة محمد ) . لاحظ تأثير العصر فى العنوان نفسه ، حيث يقول " حياة " بدل " سيرة " . و قد أثار الكتاب ضجة كبرى بين نعض علماء الأزهر . لكنه وجد في