١٣٤ معجزة القرآن

" الفرق بين آيات الرسل و غيرها من الخوارق : و لا تلتبس معجزات الرسل و آيات الأنبياء ، بما يحدث على يد غيرهم من خوارق العادات ، فإن المعجزات تأتى مصحوبة بالتحدى ، و تصدر عن رجال عرفوا بالتقوى و الصلاح ، و أنهم بلغوا منها الذروة التى لا يتطاول إليها إنسان " .

و نقول : هذا فصل بليغ فى تفصيل المعجزة و شروطها : " إن المعجزة أمر خارق للعادة ، مقرون بالتحدى ، سالم عن المعارضة " 1 . فهلا طبق المؤلف تعريف المعجزة و تفصيلها كما جاء به على ما ينسب إلى محمد ؟ ! و على ما نسبه هو إلى محمد من " الأعمال الكبرى " و من " دلائل صدقه " ليرى هل فيها من معجزة تحدى هو بها ، سالمة عن المعارضة ، لإثبات نبوته ؟

4 ) معجزة خاتم الأنبياء

" ما بعث الله رسولا إلا و قد أيده بالآيات الكونية و المعجزات المخالفة للسنن المعروفة للناس ، و الخارجة عن مقدور البشر ، ليكون إظهارها على يديه ، مع بشريته ، دليلا على أنه مرسل من عند الله . فعدم حرق النار إبراهيم ، و ناقة صالح ، و عصا موسى ، و ما ظهر على يدى عيسى من العجائب ، كلها من هذا القبيل .

" و كانت الآيات حسية يوم أن كان العقل الانسانى فى الطور الذى لم يبلغ فيه الرشد بعد ، و يوم ان كانت هذه العجائب تبلغ من نفسية الجماهير مبلغا لا تملك معه إلا الإذعان و التسليم .

" فلما بدأ النوع الانسانى يدخل فى سن الرشد ، و بدأت الحياة العقلية تأخذ طريقها الى الظهور و النماء ، لم تعد تلك العجائب هى الأدلة الوحيد على صدق الرسالة .

" و لم يعد من السهل على العقل أن يذعن لمجرد شىء رآه خارجا عن عرف الحياة . إنه يريد شيئا جديدا يتناسب و الطور الذى وصل اليه : يريد الإيمان الذى لا تخالطه الشكوك و اليقين الذى يبدد الظلمات .


1 السيوطى : الاتقان 2 : 116 .
معجزة القرآن ١٣٥

" و ما كان الله ليمد النوع الانسانى فى طفولته بما يحفظ به حياته الروحية ، ثم يدعه بعد أن أخذ سبيله الى النظر العقلى و الاستقلال الفكرى دون أن يقيم له من الأدلة ما يتناسب و الارتقاء الذى انتهى اليه : فكانت ان بعث محمدا صلعم و أيده بالمعجزة العلمية و الحجة العقلية و هو القرآن الكريم : " قل لئن اجتمعت الانس و الجن على أنه يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ، و لو كان بعضهم لبعض ظهيرا " .

و نقول : ان الاستاذ العقاد يرجع الى منطق علم الكلام ، فيعلن ضرورة المعجزة لصحة النبوة ، و يعطى اعجاز القرآن أفضل معجزة له .

لكنه جاء بتعليل لا يتماشى مع التاريخ العام ، و لا القرآن نفسه . و قد نقل فى الحاشية التعليل القديم الذى كان ضعيفا : " كان السحر مشتهرا فى عهد موسى ، و كان الطب و إنكار الروح فى عهد عيسى ، و كانت البلاغة فى عهد محمد : فكانت معجزة كل نبى من جنس ما اشتهر على عهده . مع ملاحظة ان المعجزة فوق مقدور البشر فهى أعلى مستوى و أرفع قدرا " .

و فات الاستاذ ان القرآن دعوة قومية قبل أن يمسى دعوة عالمية : " و كذلك أوحينا اليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى و من حولها " ( الشورى 7 ) . و لغة القرآن تدل على قوميته : " و ما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم " ( ابراهيم 4 ) . فالقرآن دعوة لمكة و ما حولها قبل أن يكون ذكرا للعالمين . فهل كان الحجاز فى الجاهلية قبل البعثة على ما وصفوه فى التعليل القديم و التعليل الجديد ؟

فهل كانت البلاغة فى الحجاز الجاهلى أبلغ منها فى أنطاكية و أثينة و رومة ، ناهيك عن عواصم الهند و الصين ؟ أم هل كانت عناية العصر الجاهلى بالبلاغة أكثر منها بالشعر ؟ و قد قالوا : " الشعر ديوان العرب " . و القرآن ينص : " و ما علمناه الشعر ، و ما ينبغى له " ( ياسين 69 ) . هل كان الطب فى فلسطين على عهد المسيح ، عند شعب مستعمر مقهور مغلوب على امره ، أعظم منه فى دولة الرومان و دولة الفرس ؟ و هل كان السحر فى مصر ، على زمن موسى ، أوغل منه فى كل عصر و مصر ؟ إن تعليلهم هذا لا يصح أن تقوم عليه حجية إعجاز القرآن .

و لا تقوم فلسفة إعجاز القرآن على التعليل الجديد الذى خرج به السيد السابق و أمثاله . فهل بلغت جاهلية الحجاز سن الرشد أبلغ من عواصم الهند و فارس و اليونان و الرومان ؟ بل