١٣٦ معجزة القرآن

هل كان فى الحجاز الجاهلى من الرشد نصيب زهيد مما كان فى دولة الأكاسرة و دولة الأباطرة ؟ أم هل كانت الحياة العقلية فى " أم القرى و ما حولها " أعظم من أنطاكية و أثينة ورومة ؟ هذا الزعم تحد لحقيقة التاريخ . و من المعروف أن العرب لم يأتوا سورية إلا بالدين ، و أخذوا الحضارة و الثقافة عن سورية المسيحية ، فى العهد الأموى . و فى العهد العباسى تكونت الحضارة و الثقافة الإسلاميتان بالعناصر التى أسلمت من الروم و الفرس و الهنود ، كما تشهد أسماء أعلامها الى اليوم ، و بالترجمات عن اليونانية و الفارسية و الهندية ، فكانت خلاصتها كلها .

لقد كانت جاهلية الحجاز فى طفولة عقلية و علمية بحاجة الى معجزة حسية ، أكثر منها الى معجزة عقلية و حجة علمية كالتى يرونها فى اعجاز القرآن ، لإثبات صحة النبوة و التنزيل . و القرآن نفسه شاهد عدل على وضعه التاريخى فى بيئته . فهو صراع متواصل بين محمد و المشركين على معجزة حسية من الله تؤيده : " لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتى رسل الله " ( الانعام 124 ) . فالمعجزة فى نظر أهل الشرك كما فى نظر القرآن هى " سلطان الله المبين " الذى كان " سنة الأولين " فى إثبات صحة نبوتهم : " و ما منع الناس أن يؤمنوا ... إلا أن تأتيهم سنة الأولين " ( الكهف 55 ) . لكن المعجزة منعت عن محمد منعا مبدئيا مطلقا ( الاسراء 59 ) و امتنعت عليه منعا واقعيا مطلقا ( الانعام 35 ، الاسراء 93 ) . فجدلية الاستاذ العقاد ينقصها الواقع القرآنى و التاريخى .

8 – و السيد عبد الكريم الخطيب ، فى " النبى صلعم إنسان الإنسانية ، و نبى الأنبياء " – سنة 1963 – يعرف أولا بالمعجزة : " المعجزة عند المؤمنين بالمعجزات : حدث خارق للعادة ، لم يجر على سنن الحياة ، و لا ناموس الطبيعة على الوجه الذى ألفه الناس و عرفوه ... و من أجل هذا لم تكن مخترعات المخترعين و لا أعمال العباقرة فى العلوم و الفنون و الآداب مما تدعى له " المعجزة " أو مما يتحدى به فى مقام الاعجاز ... و من هنا كانت المعجزة مصحوبة بالتحدى من جهة ، و بدعوى النبوة من جهة أخرى ... يقول ابن تيمية : انما تكون المعجزة آية إذا كانت من فعل الله ، مع التحدى بمثلها ، و دعوى " النبوة " ( ص 60 – 61 ) . و الخارق و التحدى و دعوى النبوة هى العناصر الثلاثة المكونة للمعجزة منذ أن قال بها المتكلمون ، و ان نازعهم فى ذلك الفلاسفة المسلمون .

ثانيا يقول مرددا مقالة قومه فى " اختلاف المعجزات باختلاف الأمم ... كما سنرى لماذا كانت معجزة النبى محمد معجزة عقلية تخاطب العقل الانسانى فى أعلى مستوياته و أدناها

معجزة القرآن ١٣٧

جميعا ، فيما حمل القرآن من آيات بينات " ( ص 68 و 71 ) . " الرسالة الإسلامية اذن هى الرسالة التى أدركت الإنسانية حين بلغت رشدها و حين رفعت عنها وصاية السماء التى أقامتها على الناس عن طريق أنبياء الله و رسله الكرام . و شواهد التاريخ تؤيد هذا و تشهد له . فالانسانية لعهد محمد كانت فى آخر مرحلة من مراحل سيرها نحو النضج العقلى " ( ص 115 ) . " يتحدث الجاحظ فى كتابه ( حجج النبوة ) عن طبيعة الرسالة الاسلامية ، و أنها تتجه الى مجتمع يأخذ الأمور بمعيار العقل ، و ينظر فى اعقابها و ما تؤول إليه " ( ص 117 ) . فنظرية اعجاز القرآن معجزة عقلية ترجع الى الجاحظ . كذلك نظرية بلوغ البشرية فى عهد محمد سن الرشد و النضج العقلى .

ثالثا موقفه الضعيف علميا و نقديا تجاه أساطير السيرة قبل البعثة ، مثل النور فى جبين أبيه عبد الله ، و حلم آمنة أمه ، و قصة ولادته مختونا ، و قصة شق صدره طفلا : " موقفنا من جميع القصص التى رويت عن حياة النبى قبل البعثة ، أننا لا ننظر اليها بحسابها من دلالات النبوة ، و معجزات النبى ، و انما ننظر اليها جميعها على أنها – إن صحت – لم تكن لتزيد فى قدر النبوة و لا فى عظمة النبى ، و أنها – إن لم تصح – لم تكن لتنقص شيئا من قدر النبوة ، و لا من عظمة النبى ! " ( ص 196 ) . كذلك موقفه فى ما يسمونه " إرهاصات بين يدى النبوة " ( ص 197 ) ، و يرى فيها " صورا من الحق " ( ص 201 ) مثل دين الحمس من قريش ، و رجال فى الطليعة الى الاسلام ، و هم الحنفاء ، و أخبار الرهبان من النصارى و الاحبار من اليهود ، و الكهان من العرب الذين ينبئون بمجىء النبى العربى . فهوذا زيد بن نفيل الحنيف يطوف بالبلاد و الشام " فيلتقى براهب ينصح له أن يلتمس الحنيفية دين ابراهيم عند نبى سيبعث فى بلاده ، و ان زمانه قد أظل " ( ص 206 ) : راهب مسيحى ينصح بمتابعة دين غير دينه ، و نبى على غير دينه ! و أحبار اليهود الذين يحتكرون الله و كتابه و أنبياءه يتوعدون العرب بالنبى العربى ( ص 208 ) ! و يتابع السيد الخطيب فيقول : " و كان شق وسطيح أشهر كاهنين فى الجزيرة العربية قبيل مبعث النبى ، و لا نستبعد أن يكون لشق وسطيح استطلاعات فى موكب النبوة " ( ص 217 ) ثم ينقل لهما نبوءة مفصلة عن سيرة محمد و دعوته ( 218 – 220 ) ، و هو يستظرفها و ان شك فيها . كما ينقل لكاهنة مثلها ، و للكاهن ( خطر بن مالك ) ما هو أخطر: " مبعوث عظيم الشأن ، يبعث