١٥٦ معجزة القرآن

الدكتور نظمى لوقا 1 : " و أما المعجزات فلا حجية لها إلا لمن شهدها شهود العيان ، و بيننا و بين تلك أجيال و أجيال " . و هكذا فإن دلالة المعجزة تنقضى بانقضاء زمانها ، على حد قولهم .

أجل ان " آيات الأنبياء السابقين الخارقة حادثات وقعت و انقضت " ، لكن دلالتها البرهانية على صدق نبيها لم تنقض معها . و ها القرآن نفسه يشهد بعد ألفى سنة بدلالة معجزات موسى : " و لقد آتينا موسى تسع آيات بينات ، فاسأل بنى اسرائيل إذ جاءهم " ( الاسراء 101 ) . و ما قصص الأنبياء فى القرآن سوى دليل قاطع على أن دلالة المعجزة لا تنقضى بانقضاء زمانها .

إن معجزات الأنبياء قد انقضت كحادثات ، لكنها أدت مهمتها فى زمن النبوة شهادة لها ، و بدونها لم يكن للنبوة من شهادة . و مازالت تؤدى مهمتها إلى الأبد ، فالنبى الذى ثبت بالمعجزة انه يتكلم باسم الله ، سيظل كلامه كلام الله إلى الأبد . فدلالة معجزته تدوم دوام كلامه .

و القرآن شاهد عدل على ان المعجزة دليل النبوة بعد آلاف السنين . فلما نادى محمد بنبوته ، كان تحدى المشركين له على الدوام بمعجزة مثل سائر الأنبياء : " فليأتنا كما أرسل الأولون " ( الأنبياء 5 ) ، " لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتى رسل الله " ( الأنعام 124 ) . فالقرآن يشهد بأن دلالة المعجزة لا تنقضى بانقضاء زمانها .

4 – هل المعجزة الحسية " دليل عهد الطفولة العقلية " ؟

لقد أوجز السيوطى فى ( الاتقان 2 : 116 ) موقف الأقدمين ، قال : " إن المعجزة أمر خارق للعادة ، مقرون بالتحدى ، سالم عن المعارضة . و هى إما حسية و إما عقلية . و أكثر معجزات بنى اسرائيل كانت حسية لبلادتهم و قلة بصيرتهم ، و أكثر معجزات هذه الأمة عقلية لفرط ذكائهم و كمال أفهامهم . و لأن هذه الشريعة ، لما كانت باقية على صفحات الدهر الى يمو القيامة ، خصت بالمعجزة العقلية الباقية ليراها ذو البصائر " .


1 محمد الرسالة و الرسول ص 49 .
معجزة القرآن ١٥٧

و هذا ما يردده علماء العصر ، مثل الاستاذ عبد الله السمان 1 : " و لكن الله عز و جل أراد أن يرفع من قدر الرسالة فيجعلها عقلية منطقية تخاطب العقل و المنطق ، و أيدها بكتاب الله ليعيش معها الى أن يرث الله الأرض و من عليها كآية خالدة معجزة " .

و قال السيد الصادق 2 : " و ما كان الله ليمد النوع الأنسانى فى طفولته بما يحفظ به حياته الروحية ، ثم يدعه بعد أخذ سبيله الى النظر العقلى و الاستقلال الفكرى دون أن يقيم له من الأدلة ما يتناسب و الارتقاء الذى انتهى اليه : فكان أن بعث محمدا صلعم و أيده بالمعجزة العلمية و الحجة العقلية ، و هو القرآن الكريم " .

نقول : ان هذا فرض نظريات على تاريخ البشرية ما أنزل الله بها من سلطان . نتساءل : ألم تكن جاهلية الحجاز حين الدعوة القرآنية فى طفولة عقلية بعد دعوة المسيح فى فلسطين بستماية سنة و نيف ، تحت حكم الدولة الرومانية و الثقافة الهلنستية و الكتابية ؟ فحين الدعوة المسيحية كانت فلسطين ملتقى الحضارات و الثقافات ، فقد بلغت " سن الرشد " أكثر مما سيحلم به الحجاز فى الجاهلية ، و مع ذلك فقد كانت المعجزة الحسية دليل النبوة فى الانجيل ، مع مخاطبة العقول و الضمائر .

فليست المعجزة الحسية دليل عهد الطفولة العقلية ، و لم تكن " أكثر معجزات بنى اسرائيل ( فى زمن المسيح ) حسية لبلادتهم و قلة بصيرتهم " ، انما كانت معجزات المسيح برهان النبوة و الشخصية لأنه " ليس فى المقدور نصب دليل على صدق النبى غير المعجزة " .

و القرآن نفسه شاهد عدل : فأهل مكة ظلوا يطالبون محمدا بمعجزة حسية طول عهد النبوة حتى عجز و أقر بعجزه ( الانعام 35 ) و قرر القرآن أن المعجزة منعت عن محمد منعا مبدئيا مطلقا ( الاسراء 59 ) . فهل تلك المطالبة بمعجزة كالأنبياء الأولين كانت عند أهل مكة دليل عهد الطفولة العقلية ؟ أم هل كانت جاهلية العرب يوم الدعوة القرآنية فى عهد " النظر العقلى و الاستقلال الفكرى " ، بينما رومة و أثينا و أنطاكية و الاسكندرية كانت كلها فى " عهد الطفولة العقلية " ؟


1 محمد الرسول البشر ، ص 113 .
2 العقائد الاسلامية ، ص 216 .