٢٣٢ معجزة القرآن

و أزمة الشك من التنزيل القرآنى تزول عنه بالدرس لدى أساتذته : " و كذلك نصرف الآيات – و ليقولوا : درست ! – و لنينه لقوم يعلمون . اتبع ما أوحى اليك من ربك ، لا إله إلا هو ، و أعرض عن المشركين " ( الانعام 105 – 106 ) . فدرس و اطمأن لدى " قوم يعلمون " ، و تبرأ من " الذين لا يعلمون " أى من المشركين ، و طلع على الناس بفعل الايمان و التوبة : " و اذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا ! فقل : سلام عليكم ، كتب ربكم على نفسه الرحمة ، أنه من عمل منكم سوءا بجالهة ثم تاب من بعده و أصلح فإنه غفور رحيم ، و كذلك نفصل الآيات ، و لتستبين سبيلا المجرمين . قل : انى نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله ! قل : لا أتبع أهواءكم ! قد ضللت إذا و ما أنا من المهتدين ! " ( الأنعام 54 – 56 ) . بالدرس لدى " الراسخين فى العلم " صار على بينة من ربه : " قل : إنى على بينة من ربى و كذبتم به ! " ( الأنعام 57 ) ، و ليس بالمعجزة : " ما عندى ما تستعجلون به ... قل : لو ان عندى ما تستعجلون به لقضى الأمر بينى و بينكم " ( الانعام 57 – 58 ) . فالأزمات الايمانية تنتاب النبى من داخل و من خارج .

6 – الأزمة الايمانية السادسة : الفتنة بترك بعض الوحى القرآنى

فى صراع محمد النفسانى بين الايمان و الشرك ، تراكمت عليه أزمة جديدة يصفها بقوله : " فلعلك تارك بعض ما يوحى اليك ، و ضائق به صدرك ! أن يقولوا : لولا أنزل عليه كنز ! أو جاء معه ملك ! – إنما أنت نذير ! و الله على كل شىء وكيل " ( هود 12 ) . لقد بلغت أزمة الايمان فى نفس محمدا حدا أوشك فيه أن يترك بعض ما يوحى اليه !

و سبب الفتنة الجديدة عجز محمد عن معجزة تؤيده فى دعوته . فيجيب القرآن على لسانه : " ما عندى ما تستعجلون به " . ثم يحدد له معنى نبوته و رسالته : " إنما أنت نذير " ! و ما على النذير اجتراح المعجزة لصحة النبوة و الدعوة .

فشهادته على صحة رسالته ، ليست المعجزة ، بل شهادة أساتذته له ، الذين هم على بينة من ربهم فى كتابهم : " أفمن كان على بينة من ربه – و يتلوه شاهد منه ، و من قبله كتاب موسى إمام و رحمة – أولئك يؤمنون به ! و من يكفر به من الاحزاب فالنار موعده ! فلا تك فى مرية منه ، انه الحق من ربك ، و لكن أكثر الناس لا يؤمنون " ( هود 17 ) . و قوله : " و يتلوه شاهد منه " هو مثل قوله : " و شهد شاهد من بنى إسرائيل على مثله " ( الاحقاف 10 ) . فإن شاهدا من بنى إسرائيل النصارى ، " من عنده علم الكتاب " ( الرعد 43 ) يتلو

معجزة القرآن ٢٣٣

على محمد " مثل " القرآن العربى ، فما عليه ان يترك بعض ما يوحى اليه ! و يؤمر : " فلا تك فى مرية منه " ! أى من هذا الوحى القرآنى ، النصرانى . و يؤمر أيضا : " فلا تك فى مرية مما يعبد هؤلاء : ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل ، و إنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص " ( هود 109 ) . فلا سبيل الى الشك فى الوحى ، و ترك بعضه ، و لا الى الشك فى الشرك ! لذلك" فاستقم كما أمرت و من تاب معك"! ( هود 112)، بسبب هذا الأمر كان محمد يقول: " شيبتني هود " ! لقد شاب محمد فى صراع الايمان .

7 – الأزمة الايمانية الدائمة : عجز محمد عن معجزة تشهد له

القرآن المكى صراع قائم دائم بين النبى العربى و المشركين من بنى قومه على صحة نبوته ، التى لا تؤيدها فى نظرهم – كما فى نظر أهل الكتاب جميعا – إلا المعجزة . و قد رأينا مع الاستاذ دروزة 1 " موقف القرآن السلبى " من كل معجزة تشهد لمحمد . قال : " وقف الزعماء إزاء هذا الموقف القرآنى من تحديهم ، و أخذوا يطالبون النبى صلعم بالمعجزات و الآيات ، برهانا على صدق دعواه أولا ، ثم أخذوا يدعمون مطالبهم بتحد آخر ، و هو سنة الأنبياء السابقين الذين جاؤوا بالآيات و المعجزات . و قد تكرر طلب الآيات من جانب الجاحدين ، أو بالأحرى زعمائهم ، كثيرا ، حتى حكى القرآن المكى عنهم نحو خمس و عشرين مرة صريحة ، عدا ما حكى عنهم من التحدى الضمنى ، و من التحدى بالأتيان بالعذاب و استعجاله و السؤال عنه " .

و هذا التحدى الدائم بالمعجزة ، دليلا على صحة النبوة و الدعوة – يقابله عجز محمد الدائم عن كل معجزة تشهد له – هما سبب أزمة ايمانية فى نفسه لا تنتهى ! و يتردد صداها فى القرآن المكى كله . فقد منعت عنه المعجزة منعا مبدئيا مطلقا ( الاسراء 59 ) و منعا واقعيا شاملا ( الاسراء 93 ) ، حتى اضطر الى الاقرار الصريح البسيط : " ما عندى ما تستعجلون به ... لو أن عندى ما تستعجلون به لقضى الأمر بينى و بينكم " ( الأنعام 57 – 58 ) . فالتحديات المتواصلة بالمعجزة ، و التصريحات المتواصلة بالعجز عنها ، أزمة ايمانية متواصلة فى ضمير النبى العربى .

فى خضم هذا الصراع النفسانى الدائم ، من العجز القائم عن معجزة تشهد له ، يفهم معنى تحدى محمد للمشركين بأعجاز القرآن ( الاسراء 88 ، يونس 38 ، هود 13 ) . إنه تحد


1 سيرة الرسول 1 : 225 – 226 .