٢٣٨ معجزة القرآن

و انقضت السيرة النبوية فى العهد المدنى كله فى الجهاد و القتال و الحروب . " و يكفيك أن تعلم مثلا أن عدد الغزوات و السرايا و البعوث قد بلغ خمسا و ستين ، قاد النبى صلعم منها بنفسه سبعا و عشرين ، و كل ذلك فى نحو عشر سنين – لتقدر خطورة الدور الذى كان للجهاد فى هذا العهد ، و تفهم حكمة ما شغل موضوعه ذلك الحيز الكبير من القرآن " 1 .

" و الآيات فى هذا الموضوع على نوعين : نوع تضمن دعوة عامة الى الجهاد بالنفس و المال ... و ما كان من أزمات حادة فى سبيل ذلك . و نوع ثان أشير فيه الى وقائع الجهاد النبوى البارزة و ما كان فيها ، و من الجدير بالتنبيه أن آيات النوع الثانى قد نزلت بعد الوقائع : مما يسوغ القول إن الوقائع قد كانت بأمر النبى صلعم و رأيه و بدون وحى قرآنى ، كما هو شأن أكثر أحداث السيرة النبوية " .

و صار الجهاد ركنا من أركان الإسلام : " كتب عليكم القتال ، و هو كره لكم " ( البقرة 216 ) ، كما كان الصوم : " كتب عليكم الصيام " ( البقرة 183 ) . و جعل الجهاد المقدس ركنا من أركان الدين ، هو الذى صبغ الاسلام القرآنى بصبغته الحربية ، سواء فى الدفاع عن الدين ، أم فى الهجوم لنشر الاسلام .

و فى الواقع يقسم القرآن المدنى الى عهدين : عهد الدفاع بالسلاح عن الاسلام ، مدة خمس سنوات نزل فيه اثنتل عشرة سورة ، و عهد الهجوم بالسلاح لفرض الاسلام على الحجاز و الجزيرة ، مدة خمس سنوات ، نزل فيه أيضا اثنتا عشرة سورة . فلم يكن الجهاد فى حد ذاته لحماية الاسلام و الدفاع عنه فقط ، بل تطور فى العهد الثانى المدنى ، بعد صلح الحديبية ، الى حرب أهلية لفرض الاسلام بالقوة على العرب . و هذه هى الصورة الرهيبة التى ينقلها التاريخ القرآنى للسيرة النبوية فى المدينة : نبى يقاتل عشيرته و قومه ليفرض عليهم دينه بالسيف فرضا – و لا محاباة فى سبيل الله .

و قد تطورت شرعة الجهاد بسرعة فائقة : بدأ بالإذن بالقتال : " أذن للذين يقاتلون ، بأنهم ظلموا – و إن الله على نصرهم لقدير ، الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق ، إلا أن يقولوا : ربنا الله ! و لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع و بيع و صلوات و مساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ! و لينصرن الله من ينصره – إن الله لقوى عزيز " ( الحج 39


1 دروزة : سيرة الرسول 2 : 221 – 222 .
معجزة القرآن ٢٣٩

– 40 ) . فالقتال مشروع لسببين . الأول لرد الظلم ، و الانتقام من أهل مكة الذين ألجأوهم إلى الهجرة . الثانى لبناء الدين . و لولا الجهاد لهدمت بيوت الدين و العبادة ! فحماية الدين بالقوة تحمل فى أكنافها إرادة فرضه و قيامه بالقوة .

و منذ السورة المدنية الأولى يعلن الشرعة فى صورتها الكاملة : " كتب عليكم القتال ، و هو كره لكم ! و عسى أن تكرهوا شيئا و هو خيرلكم ، و عسى أن تحبوا شيئا و هو شر لكم ، و الله يعلم و أنتم لا تعلمون " ( البقرة 216 ) . فالقتال فريضة دينية مكتوبة ، و هى خير لهم .

و فلسفة القتال فى سبيل الدين أن الفتنة فيه أشد من القتل : " و قاتلوا فى سبيل الله الذين يقاتلونكم ، و لا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ، و اقتلوهم حيث ثقفتموهم ، و أخرجوهم من حيث أخرجوكم ، و الفتنة أشد من القتل " ( البقرة 190 – 191 ) . إن تبرير القتال برد الفتنة يرفع الحرية الدينية . و لا ينفع مع هذه الفلسفة الدينية الحربية قوله : " لا إكراه فى الدين ، قد تبين الرشد من الغى " ( البقرة 256 ) . إن الحرية الدينية و القتال فى سبيل ضدان لا يجتمعان . فغاية الجهاد منع الفتنة عن الدين ، و فرض الدين كله لله : " قل للذين كفروا ، إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف ، و إن يعودوا فقد مضت سنة الأولين : و قاتلوهم حتى لا تكون فتنة ، و يكون الدين كله لله " ( الانفال 38 – 39 ) .

و صوفية الجهاد مزدوجة . إنها أولا شراء الحياة الدنيا يالآخرة : " فليقاتل فى سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة : و من يقاتل فى سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما " ( النساء 74 ) . و إنها ثانيا فتح و مغانم و منافع : " إنا أنزلنا الحديد فيه بأس شديد و منافع للناس " ( الحديد 25 ) ، " و أثابهم فتحا قريبا ، و مغانم كثيرة يأخذونها و كان الله عزيزا حكيما . وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها ، فعجل لكم هذه ، و كف أيدى الناس عنكم ، و لتكون آية للمؤمنين " ( الفتح 18 – 20 ) . إن الفتح و المغانم الكثيرة آية من عزة الله و حكمته للمؤمنين . فالذين يدعون أن المغانم ليست الهدف الثانى للجهاد ، فقد ظلموا أنفسهم و ظلموا علمهم بالقرآن .

و منذ صلح الحديبية ، الحد الفاصل بين عهد الدفاع و عهد الهجوم ، لم يعد الجهاد لرد العدوان ، بل لفرض الاسلام : " قل للمخلفين من الاعراب : ستدعون الى قوم أولى بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون " ( الفتح 16 ) . لقد ظهرت أخيرا غاية الجهاد الأولى : " هو