٢٥٠ معجزة القرآن

لكن تلك الظاهرة الغريبة فى تاريخ الأديان تنبع ، بحسب ابن خلدون ، من واقع الأمة العربية فى الحجاز . قال : " إن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية ، من نبوة ، أو ولاية ، أو أثر عظيم من الدين على الجملة . و السبب فى ذلك أنهم لخلق التوحش الذى فيهم ، أصعب الأمم انقيادا بعضهم لبعض ، للغلظة و الأنفة ، و بعد الهمه و المنافسة فى الرئاسة " 1 .

و هذه الثنائية ، فى دمج الدين بالدولة ، أصيلة فى المجتمع العربى ، لذلك انتهى اليها الاسلام فى تأسيسه : " فالديانة فى المجتمع العربى البدائى كان يعبر عنها ، كما كانت تنظم ، بطريقة سياسية ، لعدم وجود شكل آخر للعبير عنها و تنظيمها . و بالعكس كانت الديانة وحدها هى التى تعد أساس كل حكومة عند العرب الذين كان كل تصور للسلطة السياسية غريبا عنهم " . 2

و الشهادات من السيرة النبوية على تحويل النبوة إلى إمارة كثيرة . فقد رأى الأنصار و المعارضون فى المدينة ، منذ مطلع العهد بالمدينة ، فى محمد ، ملكا أكثر منه نبيا .

 فهذا زعيم المعارضة فى المدينة ، عبد الله بن أبى العوفى " رأى أن محمدا قد استلبه الملك " 3 . و شاع بين الناس قول ابن أبى . فقال سعد ، أحد سادة المدينة ، للرسول : " يا رسول الله ارفق به ، فوالله لقد جاءنا الله بك ، و إنا لننظم له الخرز لنتوجه . فوالله إنه ليرى أن قد سلبته ملكا 4 ! " هذا رأى الأنصار .

و تلك كانت نظرة اليهود الى محمد . لما أسلم عبد الله بن سلام ، قال له اليهود : " ما تكون النبوة فى العرب ، و لكن صاحبك ملك " ! 5 و ظل هذا رأى اليهود حتى النهاية . ففى غزوة خيبر رأت صفية بنت حيى بن أخطب فى منامها ان قمرا وقع فى حجرها . فعرضت رؤياها على زوجها . فقال : " ما هذا إلا أنك تمنين ملك الحجاز محمد ! فلطم وجهها لطمة خضر عينيها منها " . 6


1 المقدمة – نشر دار كتاب اللبنانى ، ص 269 .
2 كتاب : العرب فى التاريخ ، ص 54 و 57 .
3 السيرة ، لابن هشام 2 : 234 .
4 السيرة ، لابن هشام 2 : 238 .
5 السيرة ، لابن هشام 2 : 240 .
6 السيرة ، لابن هشام 3 : 350 .
معجزة القرآن ٢٥١

و هذا كان أيضا رأى زعماء المشركين فى مكة . فى فتح مكة انضم العباس عم النبى الى المسلمين . و جاء بأمر محمد يفاوض أبا سفيان بن حرب زعيم مكة على فتحها بدون حرب . أمره بالشهادة لله ، فتشهد . و أمره بالشهادة للنبى ، فأجاب أبو سفيان : " أما هذه ، و الله فإن فى النفس منها حتى الآن شيئا ! فقال له العباس : ويحك ، أسلم و اشهد أن لا إله إلا الله و ان محمدا رسول الله قبل ان تضرب عنقك ! قال : فشهد شهادة الحق فأسلم ... ثم قال أبو سفيان للعباس : لقد أصبح ملك الن أخيك الغداة عظيما ! قال : يا أبا سفيان انها النبوة ! قال : نعم اذن " . 1

و بعد فتح مكة ، ظل المكيون الذين أسلموا بالفتح على هذا الرأى . هرب من وجه محمد صفوان بن أمية ، سيد قومه . فاستأمنه عمير بن وهب لدى النبى ، و خرج فى طلبه " و قال له : هذا أمان من رسول الله صلعم . قال : ويحك ! اغرب عنى ، فلا تكلمنى . قال : أى صفوان ، فداك أبى و أمى ! أفضل الناس ، و أبر الناس ، و أحلم الناس ، و خير الناس ! ابن عمك ، عزة عزك ، و شرفه شرفك ، و ملكه ملكك " ! فرجع معه مسلما . 2

و فى معركة حنين ، " لما انهزم الناس ، رأى من كان مع رسول الله صلعم من جفاة مكة ، الهزيمة ، تكلم رجال منهم بما فى أنفسهم من الضغن . فقال أبو سفيان ابن حرب : لا تنتهى هزيمتهم دون البحر ! و صرح جبلة بن الحنبل : ألا بطل السحر اليوم ! فقال له صفوان بن أمية : اسكت ! فض الله فاك ! فوالله لأن يربنى رجل من قريش أحب إلى من أن يربنى رجل من هوزان " 3 !

فالرأى العام المعاصر للسيرة النبوية ، رأى فى محمد ملكا أكثر منه نبيا .

و فى القرآن نفسه نرى أن النبى العربى اتخذ فى سيرته مظاهر الإمارة و الملك . فقد أخذ يقتفى فى المدينة آثار الملوك الأنبياء من بنى إسرائيل ، حتى حسده اليهود و عيروه ، فنزل : " أم يحسدون الناس ( أى محمدا ) على ما آتاهم الله من فضله ! فقد آتينا آل ابراهيم الكتاب و الحكمة ، و آتيناهم ملكا عظيما ! " ( النساء 54 ) . فسره الجلالان : " فضل الله : النبوة


1 السيرة ، لابن هشام 4 : 46 – 47 .
2 السيرة ، لابن هشام 4 : 60 .
3 السيرة ، لابن هشام 4 : 86 .