٢٥٢ معجزة القرآن

و كثرة النساء ! و كانت كثرة النساء من مظاهر الإمارة و الملك . فمثال محمد النبوة و الملك العظيم ، و ذلك بنص القرآن القاطع .

و قد أباح القرآن لمحمد ما فرض على المسلمين ( النساء 3 مع الاحزاب 50 ) لئلا يكون على النبى حرج ، " سنة الله فى الذين خلوا من قبل " ( الاحزاب 38 ) . قال الجلالان : " سنة الله فى الذين خلوا من الأنبياء أن لا حرج عليهم فى ذلك ، توسعة لهم فى النكاح " !

و من مظاهر السلطان كثرة الاسرى و الغنائم . و قد كان محمد يعلم أنه " ما كان لنبى أن يكون له أسرى حتى يثخن فى الأرض " ! فأباح له الأسرى و الغنائم ، من دون الأنبياء : " فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا " ( الأنفال 67 – 69 ) .

و سلك محمد فى مكة مسلك عيسى فى النبوة فكان يدعو الى الزهد فى الدنيا . و لكن بالهجرة الى المدينة أخذ يسلك مسلك الملوك الأنبياء ، فشرع القرآن له و للمؤمنين : " اليوم أحل لكم الطيبات " ( المائدة 5 ) .

و اقتضت مظاهر النبوة و السلطان أن يخاطبه الناس كما يخاطبون الملوك بالغض من أصواتهم فى حضرته : " يا ايها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدى الله و رسوله ، و اتقوا الله ... لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبى ! و لا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض ... إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله ، أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى ... و اعلموا ان فيكم رسول الله " ! ( الحجرات 1 – 7 ) . قال الجلالان : " لا تقدموا : لا تتقدموا بقول أو فعل بدون اذن . نزلت فى مجادلة أبى بكر و عمر عند النبى صلعم . و نزل فى من يرفع صوته عند النبى صلعم " .

و من مظاهر السلطان و الملك أن تحترم الرعية نساء النى " كأمهاتهم " ( الاحزاب 6 ) ، " و لا أن ينكحوا أزواجه من بعده أبدا " ( الاحزاب 53 ) – كما كانت عادة الملوك ! و لا أن يستأنسوا الحديث معهن ! " و إذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب " ( الاحزاب 53 ) . بذلك تقضى طهارة القلب و ضرورة الملك .

و بلغت الحرمة التى يطلبها النبى لنفسه أن أمرهم القرآن بتقديم " صدقة " قبل مقابلته ( المجادلة 12 ) . لكنه نسخها لما استثقل الجماعة ذلك : " أأشفقتم ان تقدموا بين يدى نجواكم صدقة " ؟ ! ( المجادلة 13 ) .

معجزة القرآن ٢٥٣

أجل لقد كانت الهجرة انقلابا فى الرسول ، فتحولت النبوة إلى إمارة ، بشهادة القرآن و السيرة .

2 – انقلاب الرسالة الى دولة

بيعة العقبة الثانية كانت معاهدة عسكرية ، قبل الهجرة : " بايعهم رسول الله صلعم فى العقبة الأخيرة على حرب الأحمر و الأسود من الناس ... صائحا : الدم الدم ! و الهدم الهدم ! " 1 . و القرآن المدنى صورة لهذه البيعة العسكرية . فكانت الهجرة ، و تحقيق أهدافها بشريعة الجهاد ، انقلابا فى الدين الى دولة ، و فى الرسالة الى سياسة حربية .

قال الإمام حسن البنا ، مرشد الإخوان المسلمين فى مصر : " الاسلام دين و دولة ... و إنه تعرض لشؤون الحياة الدنيوية العملية بأكثر مما تعرض للأعمال التعبدية ... إن الدين جزء من نظام الاسلام ، و الاسلام ينظمه كما ينظم الدنيا ... و من ظن علمه بهذا الاسلام . و جميل قول الإمام الغزالى : " إن الشريعة أصل و الملك حارس ، و ما لا أصل له فمهدوم ، و ما لا حارس له فضائع " 2 .

و يقول عمر فروخ 3 : " كان الاسلام فى مكة دعوة دينية فصار فى المدينة دولة دينية " . ثم يقول : " الاسلام دولة . فى المدينة أصبح الاسلام دينا و دولة معا . فبدأت قواعد الدولة الاسلامية بالرسوخ . و أخذ الرسول يهتم بالأسس الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية و العلمية التى يجب أن تقوم عليها الدولة . و سيبرز فى الوحى بعد ذلك ناحيتان : ناحية الجهاد لتثبيت الاسلام و إنشاء الدولة الجديدة ، و ناحية التشريع لإدارة هذه الدولة " .
و التشريع و الجهاد هما القرآن المدنى كله ، و كلاهما لإقامة دولة الاسلام . و بتحويل الدعوة الدينية " بالحكمة و الموعظة الحسنة " الى جهاد و تشريع لإقامة الدولة الاسلامية


1 صحيح البخارى 2 : 217 .
2 عن أحمد محمد جمال : دين و دولة – المقدمة الأولى .
3 العرب و الاسلام : ص 42 و 43 .