٢٥٤ معجزة القرآن

تحولت الرسالة الى دولة : " لقد كان الاسلام الى ذلك الوقت عبارة عن دين فى دولة . أما فى المدينة بعد بدر ، فقد أصبح أكثر من دين دولة : انه أصبح الدولة نفسها . و من هناك ، منذ الوقت ، خرج الى العالم قوة حربية سياسية " 1 .

3 – انقلاب الدعوة الدينية الى حرب أهلية

كان اسلوب القرآن كله فى مكة دعوة دينية سمحاء : " ادع الى سبيل ربك بالحكمة و الموعظة الحسنة ، و جادلهم بالتى هى أحسن : إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله ، و هو أعلم بالمهتدين " ( النحل 125 ) . و كانت الدعوة بمكة فى وحدة تامة مع أهل الكتاب : " و لا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتى هى أحسن – إلا الذين ظلموا منهم ( أى اليهود ) – و قولوا : آمنا بالذى أنزل الينا و أنزل اليكم و إلهنا و إلهكم واحد ، و نحن له مسلمون " ( العنكبوت 46 ) . فحتى آخر العهد بمكة كان التنزيل واحدا ، و الاله واحدا ، و الاسلام واحدا ، بين القرآن و أهل الكتاب النصارى .

و بالهجرة الى المدينة انقلبت الدعوة الدينية الى حرب أهلية .

اولا مع المشركين . فنزل الإذن بالقتال : " أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا و ان الله على نصرهم لقدير ، الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق ، إلا أن يقولوا : ربنا الله " ( الحج 39 – 40 ) . قال الزمخشرى : " هى أول آية أذن فيها بالقتال ، بعدما نهى عنه فى نيف و سبعين آية " . ثم صار الإذن فريضة و شريعة : " كتب عليكم القتال ، و هو كره لكم " ( البقرة 216 ) . فالقتال على المسلم واجب إلهى ، لفرض الاسلام و إقامة دولته .

ثانيا مع اليهود أهل الكتاب فى ديار العرب . و الحرب الأهلية مع اليهود تعقب الجدال الدينى المتواصل معهم فى سورة البقرة و آل عمران و النساء و المائدة . قامت الحرب معهم لأنهم كانوا " أول كافر به " ( البقرة 41 ) ، و لأنهم " كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم ، بل أكثرهم لا يؤمنون " ( البقرة 100 ) . فنزل الأمر : " و إما تخافن من قوم خيانة فانبذ اليهم على سواء ، ان الله لا يحب الخائنين " ( الأنفال 58 ) . فنابذهم فريقا حتى قضى على بعض منهم و أجلى بعضا عن المدينة ، و حتى أخضعهم فى الشمال ، كخيبر ووادى القرى .


1 الدكتور فيليب حتى : تاريخ العرب 1 : 162 .
معجزة القرآن ٢٥٥

و كانت الحرب الأهلية مع اليهود حربا دينية و عنصرية معا لتحرير الجزيرة منهم . تحالف فيها مع النصارى للتنكيل بهم : " فآمنت طائفة من بنى اسرائيل ( بالمسيح ) و كفرت طائفة : فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين " ( الصف 14 ) . نزلت بعد فتح الشمال و كمال اخضاع اليهود لسلطان الدولة الاسلامية .

و كان يجرى التنكيل بفريق من اليهود كلما فشل فى حملة على مشركى مكة : كان التنكيل ببنى قينقاع ، و كانوا أشجع اليهود ، بعد بدر الأخرى لتهكمهم بالنبى ، كما نقل ابن سعد فى ( طبقاته ) : " يا محمد إنك ترى أنا قومك ! لا يغرنك أنك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب ، فأصبت منهم فرصة : إنا و الله إن حاربناك لتعلمن أنا نحن الناس " . و بعد هزيمة أحد حاصر بنى النضير حتى أجلاهم . و بعد حصار غزوة الخندق ، غزا بنى قريظة حتى " استنزلوا من حصونهم فحبسهم رسول الله فى دار . ثم خرج الى سوق المدينة فخندق بها خنادق . ثم بعث اليهم فضرب أعناقهم فى تلك الخنادق 1 و كانت غزوة الشمال الى خيبر ووادى القرى بعد فشل الحملة فى الحديبية : " أثابهم فتحا قريبا ... و مغانم كثيرة تأخذونها ، فعجل لكم هذه ، و كف أيدى الناس عنكم ، و لتكون آية للمؤمنين " ( الفتح 18 – 20 ) . حتى صار يساوى فى العداوة والكفر ما بين اليهود و المشركين ( البينة 1 – 6 ، المائدة 82 ) .

ثالثا مع المسيحيين على حدود الشام و فى اليمن ، وهم غير النصارى من بنى اسرائيل المقيمين بمكة و الحجاز . غزاهم النبى لأنهم عرب مسيحيون ، لإقامة الوحدة العربية الشاملة . و فيهم نزلت آية براءة : " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله و اليوم الآخر ، و لا يحرمون ما حرم الله و رسوله ، و لا يدينون دين الحق ، من الذين أوتوا الكتاب ، حتى يعطوا الجزية عن يد و هم صاغرون " ( براءة – التوبة 29 ) .

و فى حرب المشركين واليهود و المسيحيين يردد : " هو الذى أرسل رسوله بالهدى و دين الحق ليظهره على الدين كله ، و لو كره المشركون " و اليهود العرب و المسيحيون العرب .

و يختتم القرآن بهذه الصورة فى الحرب الأهلية القائمة : " إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا ، فى كتاب الله ، يوم خلق السماوات و الأرض . منها أربعة حرم ، ذلك الدين القيم ، فلا تظلموا فيهن أنفسكم . و قاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة ! و اعلموا أن


1 السيرة ، لابن هشام 3 : 244 – 246 .