٢٦٢ معجزة القرآن

إن النبوة لها معنيان ، عام و خاص : بالمعنى العام ، النبى هو الذى ينبىء عن الله ، و يبلغ الناس كلام الله . و بالمعنى الخاص ، النبى هو الذى ينبىء المحجوب ، غيب الخالق و غيب المخلوق . و قد درسنا فى بحث سابق هل فى القرآن من إخبار عن الغيوب ، ماضية و حاضرة و مستقبلة ، و رأينا القرآن يشهد بأن محمدا لا يعلم الغيب : " و لا أعلم الغيب " ( الانعام 50 ) ، " و لو كنت أعلم الغيب ، لاستكثرت من الخير و ما مسنى السوء " ( الاعراف 188 ).

فندرس الآن نبوءة محمد بمعناها العام ، صفتها و كيفيتها

بحث أول

معنى نبوءة محمد بحسب القرآن

فى أول سورة اعلنها النبى العربى من القرآن ، سورة النجم 1 ، يكشف كيفية اتصاله بملاك الوحى : ــــــ

و الــنــجــم اذا هوى
ما ضل صاحـبـكـم و لا غوى
و ما يــنـطــق عـن الهوى
إن هو إلا وحـــى يوحــى
عــلــمــه شديد الـــقوى
ذو مرة فاســـتوى
و هو بالأفــــق الاعــلـى
ثم دنا فــــتدلى
فـــكان قاب قوسين أو أدنى
فأوحى الى عـــبده ما أوحى
ما كذب الـــفـؤاد ما رأى
أفتمارون عـــلى ما يرى ؟

1 السيوطى : الاتقان 1 : 25 .
معجزة القرآن ٢٦٣
و لــــقد رآه نزلة أخرى
 
عـــند سدرة المنتهى ،
عـــندها جـــنة المأوى
 
اذ يــغشى الــسدرة ما يـغشى
ما زاغ الــبـصر و ما طــغى
 
لقد رأى من آيات ربه الكبرى "
   
( النجم 1 – 18 )

لقد رأى محمد ملاك الوحى مرتين. و الملاك نزل إليه ، و لم يصعد محمد بالروح الى الملاك : انها " نزلة أخرى " . لذلك ليس فى تعابير " جنة المأوى " و " سدرة المنتهى " تعابير لأماكن فى السماء ، انما هى إشارات الى أماكن على الأرض : فقد كانت الرؤية نزلة أولى ، و " نزلة أخرى " ، حيث ملاك الوحى " دنا فتدلى ، فكان قاب قوسين أو أدنى " .

و كانت رؤيا " بالفؤاد " ، لا رؤية بالبصر : " ما كذب الفؤاد ما رأى " ، و فيها " ما زاغ البصر و ما طغى " فى رؤياه . و كانت رؤيا عظيمة : " لقد رأى من آيات ربه الكبرى " ، اى ملاك الوحى .

و موضوع الرؤيا لم تحدده السورة ، بل تركته مجملا مبهما : " فأوحى الى عبده ما أوحى " . و القرآن كله يكشف لنا ان موضوع الرؤيا كان " أمرا له من عند الله ، لا القرآن السماوى نزل عليه جملة كما يتوهمون . إن القرآن صريح لا يحتمل تأويلا : " حم . و الكتاب المبين إنا أنزلناه فى ليلة مباركة – إنا كنا منذرين – فيها يفرق كل أمر حكيم ، أمرا من عندنا : إنا كنا مرسلين " ( الدخان 1 – 5 ) . فتعابير التنزيل كلها فى القرآن تشير الى أن ما " أنزلناه " كان " أمرا من عندنا : إنا كنا مرسلين " اى أنزل اليه أمر الله بالرسالة و الدعوة ، لا بمضمونها و لا بموضوعها . و كانت تلك الليلة المباركة " ليلة القدر ... تنزل الملائككة و الروح فيها بإذن ربهم من كل أمر " ( سورة القدر ) " فيها يفرق كل أمر حكيم " ( الدخان ) . فالتكرار المتواتر " إنا أنزلناه " فى سورة الدخان و فى سورة القدر ، كان " أمرا من عندنا " ، لا القرآن نفسه . فالقرآن الذى نزل فى رؤيا غار حراء المزدوجة هو الأمر بتلاوة قرآن الكتاب على العرب فى " شهر رمضان الذى أنزل فيه القرآن هدى للناس – و بينات من الهدى و الفرقان " ( البقرة 185 ) . فى لغة القرآن إن الهدى كناية عن الكتاب ، و الفرقان كناية عن السنة التى تفصله . فالقرآن العربى هو " بينات من الهدى و الفرقان " ، لذلك فهو غير