٢٨٢ معجزة القرآن

( قلت ) الذى قاله الرافعى فى غاية الاتجاه ، و هو الذى كنت أميل اليه قبل الوقوف عليه ، و التأويل الأخير ( حال الاغماء ) أصح من الاول ( حال النوم ) لأن قوله " أنزل على آنفا " يدفع كونها نزلت قبل ذلك . بل نقول : نزلت فى تلك الحالة ( الاغماء ) ، و ليس الاغفاء اغفاء نوم ، بل الحالة التى كانت تعتريه عند الوحى ، فقد ذكر العلماء أنه كان يؤخذ عن الدنيا " .

يستدل من ذلك ان محمدا كانت تعتريه حالة الاغماء ، ففسروها بحالة صوفية " أنه كان يؤخذ عن الدنيا " و سموها " برحاء الوحى " .

4 ) و ينقلون عن عائشة فى وصف " برحاء الوحى " حديثا قالت : " كان رسول الله ص إذا نزل عليه الوحى يغط فى رأسه و يتربد وجهه أى يتغير لونه بالجريدة ، و يجد بردا فى ثناياه ، و يعرق حتى يتحدر منه مثل الجمان " ( الاتقان 1 : 46 )

و ينقل الاستاذ دروزة 1 : " قالت عائشة : ( و لقد رأيته ينزل عليه الوحى فى اليوم الشديد البرد فينفصم عنه ، و إن جبينه ليتفصد عرقا ) ... أخبر صفوان بن يعلى : ( فإذا بالنبى محمر الوجه يغط كذلك ساعة ) ... أخبر زيد بن ثابت ( فأنزل الله على رسوله و فخذه على فخذى فثقلت على حتى خفت ان ترض فخذى ، ثم سرى عنه فانزل الله " غير اولى الضرر " .

فما أسموه " برحاء الوحى " وصفه الشهود بأنه حالة إغماء ، من أوصافها : " محمر الوجه يغط كذلك ساعة " ، " يغط فى رأسه و يتربد وجهه " ، " و ان جبينه ليتفصد عرقا " ، " فثقلت فخذه على حتى خفت أن ترض فخذى " .

يسمى الأطباء هذا الإغماء داء الصرع .

و المرض لا يتنافى و النبوة . لكن من الغريب ان يقرنوا ذلك الداء بحالة الوحى ، و يسموه " برحاء الوحى " ، و قد بدأ معه فى سن الطفولة لما كان معه مرضعه ، و هو دون الخامسة ، و سموا الحادث اسطورة " شق الصدر " .

5 ) إن ما اسموه " برحاء الوحى " كان مرض الإغماء اى داء الصرع الذى اعتراه منذ الصغر . و لعلهم أخذوا الاسم عن الاقدمين الذى كانوا يسمون الصرع " المرض الإلهى " . يقول العقاد 2 :


1 القرآن المجيد ص 22 – 23 .
2 العبقريات الاسلامية – " مطلع النور " ص 58 – دار الاداب ، بيروت .
معجزة القرآن ٢٨٣

" كان الغالب على الرائين انهم قوم تملكهم حالة " الوجد " أو " الجذابة " أو " الصرع " . يتدفقون بالوعد و الوعيد ، و ينذرون الناس بالويل و الثبور ، و يقولون كلاما لا يذكرونه و هم مفيقون . فيحسب السامع ان الوثن المعبود يجرى هذا الكلام على ألسنتهم للموعظة و التبصرة . و سمى الصرع من أجل هذا بالمرض الإلهى فى الطب القديم " . نجل النبى العربى عن مثل ذلك ، لكن حالة " المرض الإلهى " واحدة .

و العرب سموا صاحب هذا " المرض الإلهى " من " به جنة " ، فهو فى عرفهم " مجنون اى تسكنه جنة . و القرآن ينقل شهادتهم و تفسيرهم البسيط البدائى لداء النبى : " أم يقولون : به جنة " ( 23 : 71 ) ، " إن هو إلا رجل به جنة " ( 23 – 25 ) " أم به جنة " ( 34 : 8 ) . فلا ينكر القرآن المرض ، لكن يرد على تفسيرهم له : " ما بصاحبكم من جنة " ( 34 – 46 ) ، " ما بصاحبهم من جنة " ( 7 : 184 ) .

كان العرب يشاهدون اغماء محمد فينسبونه " للجنون " اى به جنة ، " و يقولون : انه لمجنون " ( 68 : 51 ) ، " إنك لمجنون " ( 15 : 6 ) ، " قالوا : مجنون و ازدجر " ( 54 : 9 ) . و بعضهم شك ما بين السحر و " الجنون " : " قالوا : ساحر أو مجنون " ( 51 : 52 ) ، " قال : ساحر أو مجنون " ( 51 : 39 ) . و بعضهم خلط بين الشعر و " الجنون " : " و يقولون : أإنا تاركوا آلهتنا لشاعر مجنون " ( 37 : 36 ) . و بعضهم زاد التعلم من الغير على " الجنون " : " و قالوا : معلم مجنون " ( 44 : 14 ) . و بعضهم نسب حاله الى الكهانة أو الجنون ( 52 : 29 ) . فيجيبهم دائما بسماحة و حزم : " فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن و لا مجنون " ( 52 : 29 ) ، " ما أنت بنعمة ربك بمجنون " ( 68 : 2 ) ، " و ما صاحبكم بمجنون " ( 81 : 22 ) .

فالقرآن ينفى تفسير حال النبى " بالجنون " ، لكنه لا ينفى مرض الاغماء الذى يشاهدون . ففى تهمة " الجنون " الشعبية دليل على صحة المرض – و بما ان التهمة متواترة فى القرآن كله ، فهى الدليل على ان حالات الصرع رافقت تنزيل سورة ، فسموها " برحاء الوحى " .

تلك هى كيفية الوحى القرآنى بحسب القرآن و الحديث . لكن ذلك المرض لم يمنع العبقرية و البطولة فى الدعوة ، و لا الاستبسال و الاستماتة فى الرسالة حتى النصر المبين .