٢٨٦ معجزة القرآن

216 ) . و يزيد التعارض ظهورا ، ان مبدا التسامح فى الدين ( 256 ) و رد فى النسق بعد مبدإ القتال فى سبيل الدين ( 216 ) .

إن الرسالة المعجزة ليست الرسالة الناجحة مهما كان اسلوبها . إنما الرسالة الإلهية هى التى ترتكز على المعجزة الإلهية ، مهما بدت ظواهرها فاشلة . و قد يكون نجاح الرسالة باستشهاد رسولها شهادة لها .

كانت دعوة النبى العربى فى مكة " بالحكمة و الموعظة الحسنة " على طريقة أنبياء الكتاب ، ففشلت لأنهم أعجزوه بمعجزة عجز عنها ، و تحداهم بأعجاز قرآنه ، فما أعجزهم و لا هداهم . فهاجر الى المدينة طريدا شريدا ينجو بنفسه متخفيا ، خيشة الاستشهاد . و نعرف بالمقارنة أن السيد المسيح مشى بدعوته بالمعجزة حتى الاستشهاد ، يحدد زمانه و يصف كيفيته . فتحول الفشل الظاهرى الى نصر مبين بشهادة الدم التى لا ترد . هاجر محمد الى المدينة ليطلع على الناس باسلوب جديد فى الرسالة و الدين ، هو أسلوب الجهاد و القتال فى سبيل الدين ، فكان بذلك " بدعا من الرسل " على غير ما دعونا الله فى أنبياء الكتاب . و نحن ندرس هنا هذا الاسلوب الجديد فى النبوة و الدين ، لنرى مدى الأعجاز فى الرسالة .

بحث أول

الرسالة ما بين الفشل و النجاح

ظاهرة كبرى فى الدعوة القرآنية ، ما بين مكة و المدينة ، هى الفشل فى مكة ، و النجاح فى المدينة فما هو السر ؟

قامت الدعوة بمكة على مبدإ و أسلوب . لكن المبدأ فشل ، و الاسلوب فشل .

كان مبدأ الدعوة : " ادع الى سبيل ربك بالحكمة و الموعظة الحسنة ، و جادلهم بالتى هى أحسن " ( النحل 125 ) . و تلك هى سبيل أنبياء الكتاب .

معجزة القرآن ٢٨٧

فالقرآن المكى كله يمشى على هذا المبدأ . و لا يرد على القوة بمثلها ، لا على عجز ، بل عن مبدإ . و عند شدة الاضطهاد الأول حمل جماعته على الهجرة الى الحبشة . و عند شدة المحنة و الأذى عليه هاجر شخصيا الى الطائف . أخيرا دبرالهجرة الكبرى الى يثرب .

و مثله و مثل جماعته فى مكة صورة " عباد الرحمان الذين يمشون على الأرض هونا ، و إذا خاطبهم الجاهلون قالوا : سلاما ! و الذين يبيتون لربهم سجدا و قياما ... و اجعلنا للمتقين إماما " ( الفرقان 63 – 74 ) . عباد الرحمان ، يسميهم بالمدينة " الراسخين فى العلم " أى النصارى من بنى اسرائيل . فهم مثال الدعوة السمحاء حتى فى الفتنة و الاضطهاد : " ادفع بالتى هى أحسن السيئة ، نحن أعلم بما يصغون " ( المؤمنون 96 ) ، " و لا تستوى الحسنة و لا السيئة : ادفع بالتى هى أحسن ، فإذا الذى بينك و بينه عداوة كأنه ولى حميم " ( فصلت 34 ) . هذا المبدأ صورة قرآنية لمبدإ الانجيل : " من ضربك على خدك الأيمن ، فأدر له الآخر " فاللطف أفعل فى الخصم نفسه من العنف .

لكن الدعوة بمبدإ " الحكمة و الموعظة الحسنة " فشل فى الرسالة كلها بمكة . فدبر الرسول لهجرة الكبرى الى يثرب للفرار من القتل و الاستشهاد ، و تدبير أمر الدعوة بمبدأ آخر ، و اسلوب آخر .

كان اسلوب الدعوة بمكة اعجاز القرآن فى النظم و البيان ، فتحداهم " بسورة مثله " ( يونس 38 ) ، " بعشر سور مثله " ( هود 13 ) ، " بمثل هذا القرآن " ( الاسراء 88 ) " بحديثمثله " ( الطور 34 ) .

لكن هذا التحدى بالأعجاز جاء بعد عجز النبى عن " آية كما أرسل الأولون " ( الانبياء 5 ) ، و قرر : " و ما منع الناس ان يؤمنوا ... إلا أن تأتيهم سنة الأولين " ( الكهف 55 ) أى المعجزة الحسية . فصرح ان الناس لم يقبلوا منه التحدى بإعجاز القرآن . و ظلوا الى آخر العهد بمكة يتحدونه " بسنة الأولين " لأنها من الله " سلطان مبين " على صحة الدعوة و صدق النبوة .

و النتيجة الحاسمة ان التحدى بإعجاز القرآن قد فشل فى مكة ، و لم يحمل أهلها على الايمان بصحة الدعوة ، و لا على تصديق النبوة .

فقد فشلت الرسالة بمكة فى مبدئها " بالحكمة و الموعظة الحسنة " ، و فى اسلوب دعوتها بأعجاز القرآن فى النظم و البيان . و على أهل الأعجاز أن لا ينسوا هذا الفشل الذريع الذى