٢٨٨ معجزة القرآن

حمل النبى ، بعد المناداة به فى مطلع الدعوة بالمدينة " بسورة من مثله " ( البقرة 23 ) ، على السكوت نهائيا عنه ، و التحول الى اسلوب آخر . و كانت الهجرة النهائية الى يثرب ، فصارت " مدينة " الرسول . فكانت هذه الهجرة ثورة و انقلابا فى الرسول و الرسالة ، فى الدعوة و الدين .

يقول القرآن المكى على لسان النبى : " ما كنت بدعا من الرسل " ( الاحقاف 9 ) . و نراه فى القرآن المدنى " بدعا من الرسل " . فقد كانت الهجرة الى المدينة هجرة فى النبوة الى السياسة : " هنا يبدأ الدور السياسى ... و هذا الدور من حياة الرسول لم يسبقه اليه نبى أو رسول . فقد كان عيسى ، و كان موسى ، و كان من سبقهما من الانبياء يقفون عند الدعوة الدينية يبلغونها للناس من طريق الجدل و من طريق المعجزة ... فاما محمد فقد أراد الله أن يتم نشر الاسلام و انتصار كلمة الحق على يديه ، و أن يكون الرسول و السياسى و المجاهد و الفاتح " 1

فالنبى صاحب دعوة دينية ، و ليس رجل السياسة ، و لا زعيم دولة . فهو يحمل كلام الله الى الناس ، لا سيف الاسلام للجهاد و الفتح :

كانت الدعوة بمكة للايمان بالله و اليوم الآخر ! فصارت بالمدينة الى الايمان باليوم الحاضر . كان يقول : " و لا تمدن عينبك الى ما متعنا به أزواجا منهم ، و لا تحزن عليهم " ( الحجر 88 ) ، فصار يقول : " اليوم أحل لكم الطيبات ... يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل لكم " ( المائدة 5 و 87 ، قابل البقرة 168 ) . كانت الدعوة بمكة دينية ، فصارت بالمدينة دنيوية أيضا ، حتى امتزجت شؤون الروح بشجون الجسد ، و أحوال الدين بأمور الدنيا ، و حاجات الدنيا بميزات الآخرة ، و انقلب الدين الى دولة .

منذ مطلع الدعوة بالمدينة جاءت شرعة الجهاد القرآنية : " كتب عليكم القتال و هو كره لكم " ( البقرة 216 ) . فتحولت الرسالة الدينية الى رسالة دولية ، و صار الاسلام دنيا و دولة معا . و صار محمد " نبى الملحمة " بعد ان كان " نبى المرحمة " . و انتشر الاسلام بالجهاد للدفاع أولا عن وجوده و كيانه ، ثم للهجوم بالسيف على سائر الجبهات ، فنجحت الدعوة . فالرسالة ما بين مكة و المدينة قامت على الفشل بمكة ، و على النجاح بالمدينة . و ذلك بسبب فرض الجهاد فى الدين ، و القتال على الايمان .


1 حسين هيكل : حياة محمد ص 190 .
معجزة القرآن ٢٨٩

و هو يبرر نشر الاسلام بالجهاد بقوله : " إنا أنزلنا الحديد ( أى السيف ) فيه بأس شديد ، و منافع للناس " ( الحديد 25 ) . تقوم لديه منفعة الدين و الدنيا بالسيف . فكان نصر الله و الفتح ، كما يشهد فى آخر سورة : " إذا جاء نصر الله و الفتح ، و رأيت الناس يدخلون فى دين الله أفواجا ، فسبح بحمد ربك ، و استغفره إنه كان توابا " ( سورة النصر ) . ان فرض الاستغفار ، بعد الفتح ، يفترض أنه فتح مشبوه من حيث الأعجاز فى الرسالة الدينية .

بحث ثان

فرض القتال فى الدين

ما زال طول العهد بمكة ، حتى مطلع العهد بالمدينة يقول : " ل إكراه فى الدين " ( البقرة 256 ) . لكن منذ مطلع العهد بالمدينة يشرع : " كتب عليكم القتال " ( البقرة 216 ) ، و ليس القتال ضرورة عابرة ، بل انه ركن من اركان الاسلام ، نزل من الله لنصرة الله و رسله : " و انزلنا الحديد فيه بأس شديد ، و منافع للناس ، و ليعلم الله من ينصره و رسله بالغيب : إن الله قوى عزيز " ( الحديد 25 ) .

تلك نفحة ناشزة لها صدى فى التوراة ، و جاء الانجيل فقضى على القتال فى الدين . لكن القرآن يعود فيشرع القتال فى سبيل الدين ، و تتطور شريعة الجهاد و القتال حتى تملأ الدعوة و السيرة بالمدينة : " و الآيات القرآنية فى موضوع الجهاد قد شغلت من حيث كثرتها حيزا كبيرا يكاد يبلغ نصف القرآن المدنى . و فى هذا دلالة على ان هذا الموضوع كان من أهم أدوار السيرة النبوية فى العهد المدنى أو أهمها " 1 .


1 دروزة : سيرة الرسول 2 : 221 – 222