وسبب ذلك يرجع إلى اختلاف أعمق ، يوجد في معنى "الواحد"
. فكيف يمكن توضيح معنى الثالوث ، إن لم يوضح أولا معنى
الواحد ؟ وقد وعى إلى ذلك المفكرون النصارى ، وحاول بعضهم
حل المشكلة بمجرد وضع تمهيد في هذا المعنى .
فقال أبو رائطة حبيب بن خدمة التكريتي ، وهو مفكر سرياني
، عاش في أواخر القرن الثامن وصدر القرن التاسع الميلادي
، في مقالة له في التوحيد والتثليث مخاطبا المسلمين :
"... مع أننا ، وإن كنا وافقناكم في مقالتكم بأن
الله واحد ، فما أبعد ما بين القولين ، فيما تظنون ونَصِف
! والشاهد على ما ذكرتُ : مخالفة صفتكم لوحدانيته صفَتَنا
إياه"2
وكذلك افتتح يحيى بن عدي مقالته بقوله : "اختلف
القائلون بوحدانية الخالق (تبارك اسمه!) ، في معنى وحدانيته
(تعالى عما يقوله الملحدون!)"3. ثم أخذ
يعدّد هذه الآراء المختلفة ، التي يقول بها الموحدون .
ولم يذكر يحيى أبدا ، في مقالته ، لا المسلمين ولا المسيحيين
، وإن كان يقصد بلا ريب هاتين الفئتين . فعندما يقول :
"فقال قوم : "إن الخالق (عز وتعالى !) واحد
من كل حين ، لا يتكثّر من جهة من الجهات"4
، يفهم القارئ أنه يعني المسلمين . وعندما يقول : "وقال
آخرون : "بل هو واحد من جهة ، وكثير من جهة"
5 ، لا يشك أحد في أنه يقصد المسيحيين.
إلا أن عدم ذكره المسلمين والمسيحيين يدل على قصد مقالته
. فهو لا يريد تأليف مقالة دينية أو لاهوتية ، بل مقالة
فلسفية . ويكاد لا يستعمل كلمة "الله" ومرادفاتها
(الخالق ، البارئ) ، مفضلا عبارة "العلّة الأولى"
عليها . وذلك أوضح دليل على قصده وغرضه . وكذلك لم يستشهد
أبدا بالكتب المنزلة ، وإنما استشهد فقط بأرسطوطاليس ،
"الفيلسوف" . كما أنه لم يلفظ كلمة "التثليث"
، وإن كان قد عنى هذا المعنى في الفصل الحادي عشر . فجاء
بحثه فلسفيا محضا .
|